الجزء الثامن
أما موضوع رجال الدين فقد يكون بحاجةٍ إلى وقفة طويلة، وابتداءً أثبّت حقيقةً ترسخت عبر تجارب الأمم والشعوب الأخرى، فما دَخلَ رجلُ الدين في السياسة إلا وأفسدها وأفسد الشعارات الدينية التي يتمترس خلفها، كما أن رجل الدين طالما أجاز لنفسه الدخول في معترك السياسة، فعليه أن يخلع عن نفسه وجاهة العمامة والجبّة التي يفترض أنهما تحملان قدسيّة وقوة تأثير مستمدتين من الدين نفسه وليس من تأثير المعممين أنفسهم، ذلك أن كثيرا من رجال الدين يعتبرون العمامة والجبة أمضى من الرتبة العسكرية التي يرتديها كبار ضباط الجيش لفرض هيبة الرتبة، ذلك أن معظمهم لا يمتلكون المؤهلات الكافية ليكونوا قادة سياسيين مقبولين في مجتمعهم.
هل بإمكان رجل الدين أن يتخلى عن منطق فرض الرأي بقوة الفتوى الدينية؟ وأن يقبل تعريض نفسه للمساءلة مهما كان نوعها ومن أي وسط سواء كان سياسيا أو إعلاميا أو مهنيا، كما يحصل مع أي سياسي لا قوة لديه إلا قوة الحجة والقانون.
لقد كانت تجربة الحكم في العراق من 2003 أسوأ نموذج لاستغلال الدين في استغفال أبناء الشعب من أناس نزعوا عن عقولهم أي وازع ديني ولبسوا أردية الخديعة والتضليل، على طريق حرف مفاهيم التسامح الديني التي جاء بها الإسلام، واتخذوا الفتوى الدينية وسلطة المراجع غير المنتخبة أولا وغير عراقية ثانيا أداة لفرض كل الأفعال الشائنة التي سُجلت في تاريخ حكام العراق بعد الاحتلال وتبريرها، سواء في فرض القوائم الانتخابية للتحالف الشيعي، أو من سطوٍ على المال العام وقتل النفس البشرية من دون ذنب، ومنحوا مظلة الحماية لمليشيا القتل الطائفي والتهجير على الهوية والتي سطت على الممتلكات الخاصة فدفعوا بالجيل الجديد إلى التشكيك بصواب النهج الإسلامي، وهذا ما خطط له غزاة العراق.
وللنكوص الذي يطبع سلوك رجال الدين في المجتمع العراقي كما هو حال بقية الشرائح الاجتماعية بما فيها كثير من العناصر التي كانت منتمية إلى حزب البعث ممن لم يحصنوا أنفسهم بالنزاهة والأمانة فجعلوا المؤسسات التي انتموا إليها مجرد جسور للتسلق إلى الوجاهة والسلطة والثراء، لهذا النكوص أسباب عديدة:
أ – حماية النفس من الأخطار التي اتسع مسطح انتشارها، لا ليتأكد من المواقف وإنما صار على الزي والاسم والمنطقة، ومع إقرارنا بأن حماية النفس من الخطر الخارجي حق إنساني مشروع، إلا أنه عندما يتحول إلى جبن وانهيار ينسحب على الموقف المبدئي والأخلاقي، فحينذاك يتخطى كل الحدود المقبولة عرفا ًوقانونا ًبل يتحول إلى سلوك مدّان، يقابل هذا أن آلافاً من علماء الدين الأعلام تمسكوا بالموقف الإسلامي السليم في مقارعة الظلم والاحتلال الأجنبي والإرهاب الفئوي والطائفي، فدفعوا حياتهم ثمنا لموقف رجولي شجاع يذكّرنا بمسيرة المسلمين الأوائل.
ب – المال: لقد خلق الله الإنسانَ وجعل حبَ ّالمال غريزةً إنسانية، يقول الله تعالى بِسْمِ اللَّهِ الرّحمنِ الرَّحِيمِ (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)، ولهذا فإن رجل الدين “وليس عالم الدين” شأنه شأن كل بني البشر الذين أطلقوا لنزواتهم العنان، فراح يبحث عن المال في مظّانه، ولم يكلف نفسه عناء َالسؤال عن حلال هذا المال أو حرامه، فاندفع في سباق محموم لاكتناز المال وتكوين الثروة وامتلاك العقارات بصرف النظر عن نظافة الوسيلة في الحصول عليها.
وكثير من أولئك ركنوا إلى حكامهم ووجدوا في الاقتراب منهم اللقمة الدسمة والمال الوفير، شرط إصدار الفتاوى في تبرير سلوك الحاكم مهما انحرف عن جادة الصواب، بل ومهما خالف شرع الله.
ج : الجاه والوجاهة:
إن رجال الدين السُنّة في العراق ليسوا استثناء عن أمثالهم في الوطن العربي والعالم، فهم استنساخ لتجارب رجال الدين في كل مكان، وفتواهم جاهزة تحت طلب الحكام وأغرب ما تلك الفتاوى أنها سريعة التبدل والانقلاب على ما سبقها لتنافس عصر السرعة، ولنأخذ ما حصل في سوريا عندما تحول مفتي سوريا إلى سيف بيد نظام القتل الطائفي في دمشق يبرر جرائمه التي فضحتها أجهزة الإعلام العالمية ولم تعد خافية على أحد، ولنأخذ خطبة إمام المسجد الحرام التي ألقاها يوم الجمعة 4 /9 /2020 وعاد بها إلى عهد الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي إشارات ذات مغزى سياسي مقصود، تحدث عن تصرف النبي الكريم مع يهود خيبر فيما يتعلق بثمار زروعهم وكأنها الحالة الوحيدة التي سادت في علاقات النبي الكريم مع يهود المدينة الذين خانوا عهودهم مع المسلمين، ولكن الخطيب نسي أو تناسى ما آل إليه وضع يهود خيبر بل جميع اليهود في المدينة المنورة وكل جزيرة العرب، فبأي السلوكين يرضى الخطيب ومن حوّل بوصلته من بعد أن كانت خطبهم تحفل بالدعاء على اليهود أعداء الإسلام وتدعو بنصرة المسلمين عليهم وإعادة المسجد الأقصى إلى أهله.
فإذا كان المطلوب من المسلمين التأسي بأفعال الرسول الكريم، فيجب أن يتوفر القائد الذي يمتلك الحد الأدنى من قيم النبي ومن شجاعته وقدرته القيادية الفذة التي لم تتوفر للأولين ولا للآخرِين، وأهم من هذا وذاك أنه نبي مرسل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واللافت أن تلك الخطبة، تزامنت مع خطوات سياسية أقدمت عليها دولة الإمارات العربية بالتطبيع مع إسرائيل، وعدوى الأفكار التي جاءت في تلك الخطبة انتقلت إلى عدد من الأكاديميين والإعلاميين السعوديين والخليجيين وكأنها توجيهات وتعليمات هبطت دفعة واحدة من مركز السلطة السياسية، في أحاديث تبشر بعهد جديد من العلاقة مع إسرائيل وتصوير اليهود بأنهم أصحاب حق بفلسطين وحتى في مكة والمدينة المنورة، فهل فعلت الخطبة المذكورة كل هذا الفعل من منطلق ديني مجرد؟ أم أن مصدر توجيه واحد وهو الذي جعل من رجل الدين السني تابعا لمركز القرار السياسي في البلد الذي يعمل فيه؟
أرى أن أمام رجل الدين وحتى عالم الدين ثلاثة خيارات في التعامل مع التوجهات الرسمية في بلده، الأول أن يعارض بصورة علنية تنفيذا لقراءة شرعية صحيحة وحينذاك عليه أن يتحمل تبعات ذلك التصرف، الثاني أن يصمت إن خشي على نفسه الفتنة أو القتل أو السجن، وخاصة في مجتمعات لا وجود لقضاء عادل فيها، والثالث أن يجهر بتأييد الموقف، فإن كان عالم دين استكمل الشروط اللازمة لهذه الصفة، فعليه أن يسند موافقته بأسانيد شرعية من الكتاب والسنة، أما إذا كان رجل دين يميل مع ريح السلطة، فليس عليه حرج من أن يفتي بما تقتضيه مصلحته وليس مصالح المسلمين.
تحصل كل هذه التطورات المتسارعة في زمن تتزايد فيه دعوات التطبيع مع المحتلين الصهاينة والتعامل معهم كضيوف مرحب بهم، فعلى أي شرع يستند هؤلاء الخطباء؟ ألم يكن حريا بهم دعوة الغزاة والطغاة إلى ترك بلداننا إن كان لهؤلاء الخطباء حظوة عندهم؟ إن كانوا لا يستطيعون تقليد من سبقهم من علماء الدين الذين واجهوا الغزاة بكل قوة ووضوح الفتوى، فهل انقلبت لدى وعاظ السلاطين المقاييس أم أنهم مجبورون على قول ما يقولون وبالتالي فقدوا أهليتهم من أجل أن يتبوؤوا مقاعد الوعظ والإرشاد؟
هنا لا بد من القول إن ما ذكرناه عن انحراف خطيب المسجد الحرام واساءته لمكانة البيت العتيق غير محصور فيه، فشيوخ الجامع الأزهر صاروا يتقلبون مع هوى الحكام حيثما مالوا، وبالمقابل هناك علماء دين تمسكوا بشرف الكلمة وحافظوا على الأمانة التي أوكلتها الأمة إليهم.
أما التحولات الدراماتيكية التي طبعت سلوك بعض رجال الدين الُسنّة في العراق وعَرضِهم خدماتهم برخص وذل وخنوع لإيران ومليشياتها التي مارست أبشع الجرائم بحق سكان المدن التي يزعم هؤلاء الأدعياء أنهم يمثلونها، فستبقى عالقة بعمائمهم وأسمائهم والتاريخ سيدّون كل شيء.
هنا لا بد من إجراء مقارنة لن تكون في صالح رجال الدين السُنّة، فهل سمع أحدٌ منا معمماً شيعياً يخرج عن إرادةِ المرجع الشيعي الأعلى سواء كان في النجف أو قم أو في طهران وخاصة بعد وصول خميني إلى السلطة؟ هذه ليست مقارنة بين من هم على صواب ومن هم على خطأ، وإنما هي مقارنة بين من هم الأكثر التصاقاً بمركز التوجيه العقائدي والعودة إلى أحكام القران الكريم والسُنة النبوية الشريفة، ولا بد أن أثبت أنني لست رجل دين ولا اتحدث في أمور فقهية بل أتناول الموضوع من زاوية سياسية فقط، وقد أجد نفسي مضطرا للإشارة إلى مفارقة لافتة، وهي أن رجال الدين الشيعة لم يجاهروا بالتصدي للحكم الوطني قبل 2003 بقدر ما جاهر بالعداء له من رجال الدين السُنة، ومع ذلك فإن هناك في العملية السياسية من يتاجر ببضاعة أن نظام حكم البعث كان سُنيّا.