القمع الفكري وأثره في كتابة التاريخ

الجزء الاول

عندما أرى ما تفعله المعارضة العراقية مع الأسرى العراقيين أشك في وطنيتي.
(هاشمي رفسنجاني)
استكمل الغزاة الأمريكيون والبريطانيون ومعهم قوات من دول حلف الأطلسي ومليشيات من الخونة العراقيين كانت إيران قد دربتها وهيأتها بالتنسيق مع دول العدوان، استكملوا آخر صفحات الغزو وذلك باحتلال بغداد وإسقاط تمثال الرئيس صدام حسين في ساحة الفردوس، يوم 9 نيسان/ أبريل 2003، ومن مفارقات هذا التاريخ، أنه هو اليوم الذي تم توقيع أول معاهدة صداقة وتعاون استراتيجي بين العراق والاتحاد السوفيتي السابق عام 1972، مما يعطي درسا بليغا لكل دول العالم بأن الأمن الاستراتيجي لا يتحقق بتحالفات خارجية غير متكافئة، وأن سيادة الدول الصغيرة ووحدة أراضيها تحققهما هي لوحدها اعتمادا على جملة عوامل إذا ما أحسنت استخدام طاقاتها البشرية والاقتصادية على الوجه الأكمل أي أن الأمن الذاتي لا يوازيه الأمن المجلوب من الخارج مهما اشتملت الضمانات التي تعرضها الدول الكبرى من وعود واغراءات.
فإذا كان التاريخ يكتبه المنتصرون كما يقال، فمن هو المنتصر في العراق في عدوان 2003؟ هل هم الأمريكيون؟ إذا كان لهم تاريخ يكتبونه عن هذه الحرب، فإن الأمر لن يتعدى كيفية التحضير للملفات السياسية التي لفقتها المخابرات المركزية الأمريكية بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات الغربية، ثم التنسيق الذي أجرته مع بعض الدول العربية التي وضعت تحت تصرف الغزاة الأموال اللازمة وفتحت لها حدودها للتحشيد لشن العدوان، وسلمتها قواعدها البحرية والجوية وممراتها المائية، وكذلك لن تكتب أكثر من تفاصيل المعارك التي اشتبكت خلالها القوات الأمريكية منذ ليلة 19 على 20 آذار 2003 حتى 9 نيسان، وما واجهته من مقاومة ضارية في أكثر من جبهة، ولكن فارق القوة والقدرة على تعويض الخسائر مكنّها من التقدم نحو بغداد حتى احتلتها بعد معارك استخدمت فيها اليورانيوم المنّضب وخاصة معركة مطار بغداد الخالدة، ثم ما أعقب الاحتلال من فعل مقاوم امتد من ذلك اليوم حتى تمكّن الغزاة من زرع فتنة صحوات الغدر السنية، التي لعبت أقذر الأدوار في الإجهاز على المقاومة الوطنية المسلحة التي كبدت الأمريكان خسائر فادحة أعادت للذاكرة الجمعية الأمريكية مآسي الهزيمة الأمريكية في فيتنام، ويعترف قادة عسكريون أمريكان أن الصحوات كانت بمثابة قارب نجاة لهم من المأزق الذي تورطوا فيه.
أم كان الإيرانيون هم المنتصرين؟
الإيرانيون تاريخيا أجبن من أن يتورطوا في حرب مباشرة مع العراق وجها لوجه، لا سيما وأن سجلهم التاريخي يذكّرهم دائما بثلاث هزائم منكرة مع العراقيين أو كان للعراقيين الدور الأبرز فيها، تبدأ بمعركة ذي قار ثم معركة القادسية التي قوضت أركان الإمبراطورية الساسانية في عهد الخليفة الفاروق رضي الله عنه، أو القادسية الثانية (قادسية صدام) التي جرّعت الخميني كأس السم باعترافه هو، لذلك لا يمكن أن يعتبر أحد من المؤرخين إيران من المنتصرين في حرب لم تخضها بأي قدر من المقادير.
إذن من هو المنتصر في هذه الحرب ومن هو المهزوم؟
باختصار شديد المهزوم في الصفحة الأولى من المنازلة كان الشعب العراقي الذي تضافرت عليه تحالفات قوى الشر من الجهات الأربع ولكنه سرعان ما استعاد ما يختزنه من عزم فانطلقت أسرع مقاومة عرفها شعب من الشعوب، وبدأت تنشر الموت في صفوف المحتلين في مواجهة غير متكافئة ولكنها كبدت العدو المحتل فوق ما يتصور من خسائر، فبعد أن تجرّعت الولايات المتحدة وبريطانيا ذل هزيمة ما كان بإمكانهما تصورها في أي ظرف، لجأتا إلى سلاح الاستعمار القديم، وهو الثأر من الشعب العراقي بإثارة الفتن الدينية المذهبية والعرقية، ولهذا فقد عاش العراق منذ ذلك الوقت أكثر حقبه التاريخية سواداً ورعباً وقمعاً، مارسته مليشيات مسلحة نفذت مهماتها على مرحلتين، الأولى بدعم مباشر من سلطة الاحتلال أو بدعم معبرٍ عنه بصمتٍ وبغضِ النظر عن جرائمها التي كان معظم ضحاياها من الأفراد أو الجماعات التي لا صلة لها بالعمليات الحربية، أو المؤسسات الحكومية، فغرقت الدولة في مستنقع الفوضى المنظمة التي خطط لها المحتلون الكبار وأوكلوا مهمة الإشراف عليها إلى الوكلاء الصغار.
كان القمع السياسي والفكري وتسخير موارد السلطة من سلاح وأموال، على مر العصور أهم الأسباب التي أدت إلى إشاعة أجواء الهلع الفردي أو الجمعي وإظهار ما لا يخفي من القناعات، حتى تحول السلوك السائد سلوكا منافقا يسعى لقلب الحقائق وتزييفها وخاصة في مجال تدوين الأحداث الجارية بحيث يدخل عليها الغرض السياسي، فتقلبُ الحقائق التاريخية التي يجب أن تسرد كما هي من دون إضافة أو حذف ثم يترك أمر تفسيرها للمهتمين من باحثين أو مؤرخين، وإذا كان القمع سببا في طمس كثيرٍ من الصفحات التي يراد طمسها وتجاوزها من التدوين، فإن التاريخ العربي هو الأكثر تعرضا للأهواء والأغراض في تدوينه، بسبب التباين الحاد بين توجهات السلطات التي تعاقبت على حكم الدولة العربية الإسلامية من نهاية حكم الدولة الراشدة بل حتى في السنوات الأخيرة من حكمها، والذي كان يصل حد الصدام المسلح، فقد تنقّل الحكم بحد السيف بين تلك الدول وهذا ما فرض وجهات نظر المتصدين للحكم على التدوين والفقه والأدب، إما نتيجة القمع الذي كانت تلك السلطات تمارسه فعلا، أو نتيجة نزعة البعض نحو الكسب والتقرب من السلطان بصرف النظر عن المواقف السياسية.

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى