لا يمكن لكلّ عاقل وحكيم أن ينكر الدور المحوريّ للولايات المتّحدة في المنطقة والعالم، ولهذا من الضروري لكلّ دولة تطمع بالأمن والاستقرار السعي لترتيب علاقات مستقرّة مع واشنطن، قائمة على الاحترام والمصالح المشتركة!
وقد حرص كافّة المسؤولين في الدولة العراقيّة، بعد العام 2003، على زيارة البيت الأبيض للحصول على الدعم المعنويّ والعسكريّ، في بلاد تعاني من ظروف غير طبيعيّة، وتنهش العصابات الرسميّة وغير الرسميّة الكثير من رجالها وأموالها!
وبعد أكثر من 100 يوم على تسلمه المنصب حَلّق رئيس الوزراء العراقيّ مصطفى الكاظمي إلى واشنطن للقاء الرئيس دونالد ترامب، وعقد العديد من الاتّفاقيات الأمنيّة والاقتصاديّة!
الزيارة تأتي في وقت يمرّ فيه العراق بأزمات سياسيّة وأمنيّة وشعبيّة وصحّيّة واقتصاديّة، وكذلك في ظلّ عدم وضوح للعلاقات بين بغداد وواشنطن!
زيارة الكاظمي لواشنطن غير مُرحب بها من فصائل الحشد الشعبيّ الموالية لإيران، وهذا ما أكّده السياسيّ مشعان الجبوري يوم الثلاثاء الماضي، وبيّن أنّ “الفصائل المسلّحة تعترض على زيارة الكاظمي لواشنطن تماشياً مع رغبة طهران”، وأنّه “لن تكون هناك انتخابات نزيهة بوجود الفصائل الولائية، التي سرقت مصفى بيجي ومحطّات الكهرباء، وهيمنت على آبار النفط البعيدة عن سيطرة الحكومة، واقتادت مئات المواطنين ودفنتهم في أماكن مجهولة، وعندنا معلومات مفصّلة عن ملفّ المغيبين والفصائل المتورّطة”، وأنّ “قادة بعض الفصائل يملكون أكثر من 400 مليون دولار”!
وقد لاحظنا أنّ زيارة الكاظمي تختلف عن زيارات المسؤولين العراقيّين السابقين من حيث الاهتمام الأمريكيّ الرسميّ بها، وقد قال الرئيس ترامب خلال مؤتمر صحفيّ مشترك مع الكاظمي إنّ “واشنطن تشارك في العديد من مشاريع التنقيب عن النفط العراقيّ، ولدينا قوّات قليلة جداً في العراق، وتواجدنا لمواجهة أيّ عمل إيرانيّ، ونتطلّع للانسحاب من العراق في يوم لا يكون هناك حاجة لوجودنا، وسندعم العراق ليكون جاهزاً للدفاع عن نفسه”!
ووصف البيت الأبيض في بيان أصدره، الخميس، العلاقات الأمريكيّة العراقيّة بأنّها “شراكة استراتيجيّة بين البلدين”.
ورغم أنّ جولة المباحثات الأولى بين بغداد وواشنطن تمخّضت عن اتّفاق يقضي بتقليص عدد القوات الأمريكيّة في العراق، إلا أنّ الفصائل المسلّحة المُوالية لإيران مُصرَّة على جدولة انسحاب القوات الأمريكيّة كشرط أصيل للقبول بنتائج أيّ مفاوضات بين الجانبين، وهو ما دفع واشنطن للتأكيد يوم الأربعاء الماضي بأنّها ستنسحب من بلاد الرافدين خلال ثلاث سنوات!
ومعلوم أنّ هذه الوعود الأمريكيّة غير مُلزمة، ومشروطة، وبالتالي لا يمكن التعويل عليها كثيراً!
وفي كلّ الأحوال أتصوّر أنّ تركيز الإدارة الأمريكيّة في حوارها مع الكاظمي سيكون على الفصائل العراقيّة المسلّحة المُوالية لإيران وكيفيّة التخلّص منها، وربّما سيتمّ الاتّفاق بين الطرفين على توجيه ضربات ساحقة لتلك الفصائل بعد عودة الكاظمي للعراق، دون أن يُعلن عن هذا الاتفاق الضروريّ لكلا الطرفين، الحكوميّ والأمريكيّ على حدّ سواء!
الكاظمي قال في تغريدة له بعد الزيارة: “اختتمت للتوّ لقاء ممتازاً مع الرئيس دونالد ترامب، وسنواصل العمل على دحر فلول الإرهاب وتطوير مشاريع مشتركة لتحسين علاقاتنا الاقتصاديّة”.
فهل الكاظمي يعدّ من الشركاء الأقوياء، أم سيكون مجرّد ساعي بريد لنقل رسائل واشنطن، ويحاول ترجمتها في المشهد العراقيّ؟
وهل الكاظمي، الذي دشّن زياراته الخارجيّة بزيارة إيران، يعدّ رجل أمريكا في العراق، أم رجل إيران، أم هما شريكتان في الرجل؟
وهل سنشهد خلال الأيّام القادمة توجيه ضربات جوّيّة أمريكيّة (انتخابيّة انتقاميّة) لأتباع إيران في العراق لتعبيد الطريق لدخول الرئيس ترامب للبيت الأبيض ثانية؟
وهل يمتلك الكاظمي القدرة، على الأقل، للتعاون في هذا الملفّ الذي سيفتح عليه نِيران الفصائل الولائيّة؟
وهل سنكون حينها أمام مرحلة بناء دولة المؤسّسات في العراق، أم سنكون على فوهة بركان مدمّر لا تقف نيرانه عند حدود العراق فقط؟
وبعيداً عن كلّ الآمال والأحلام، وربّما الأوهام، التي بُنيت على زيارة الكاظمي لواشنطن، أرى أنّ نجاح الزيارة وفشلها ستؤكّده الأحداث الكبيرة المُرتقبة خلال الأسابيع القريبة اللاحقة للزيارة، والسابقة للانتخابات الأمريكيّة!
فهل ستكون خطّة ترتيب أوراق العراق سفينة النجاة لترامب والكاظمي معاً، أم أنّ لإيران وفصائلها في بلاد الرافدين رأيا آخر؟