منذ أن تسلم مصطفى الكاظمي منصبه رئيسا للحكومة العراقية، في مايو الماضي، وهو يحاول، على ما يبدو، إنقاذ البلاد من “إرث” ثقيل خلفه سلفه عادل عبد المهدي، الذي منح الجماعات الموالية لطهران مطلق الحرية للسيطرة على العراق سياسيا وأمنيا واقتصاديا، وفق ما يرى مراقبون.
ولعل المشكلة الأبرز التي تواجه حكم الكاظمي، رئيس جهاز المخابرات العراقي السابق، تكمن في كيفية التعامل مع هذه الميليشيات التي تعمل بجد على تقويض سلطة الدولة والحفاظ على مكتسباتها بأي ثمن.
خلال الأشهر الماضية اتخذ الكاظمي مجموعة من الإجراءات للسيطرة على السلاح المنفلت، وانهاء الفساد الذي ينخر في جميع مؤسسات الدولة ويساهم في تضخيم الموارد المالية للأحزاب السياسية والميليشيات.
واليوم السبت، أطلقت الحكومة العراقية عمليات تفتيش واسعة للبحث عن السلاح والمطلوبين في بغداد والبصرة، بعد تزايد عمليات الاغتيال التي طالت ناشطين في الاحتجاجات الشعبية.
وفي أول أيام الحكومة الجديدة، هاجمت قوات أمنية عراقية مقر فصيل مسلح موال لطهران في البصرة، بعد قيام عناصره بقتل محتجين، وبعدها بأسابيع نفذت قوة من جهاز مكافحة الإرهاب عملية “جريئة” استهدفت مقرا لميليشيا كتائب حزب الله، أحد أكثر الفصائل الموالية لطهران تنظيما وقوة، واعتقلت عددا منهم قبل تنفيذهم هجوما بالصواريخ ضد مصالح أميركية.
ردة الفعل كانت عنيفة، بعد أن استعرض عناصر الميليشيات قوتهم في بغداد، دخلت مجاميع منهم للمنطقة الخضراء المحصنة وسط العاصمة مدججين بالسلاح وحاصروا مقر الحكومة وأجبروها على إطلاق سراح زملائهم.
غير بعدها رئيس الحكومة العراقية بوصلته إلى المنافذ الحدودية، التي تحولت خلال السنتين الماضيتين، لمورد مالي ضخم للميليشيات الموالية لطهران نتيجة عمليات الفساد والتهريب وبعض الأحيان، تجارة المخدرات القادمة من إيران.
“خطوة ذكية”
كانت هذه الخطوة “الأكثر ذكاء” التي اتخذها الكاظمي لمواجهة نفوذ إيران وأذرعها وتفكيك جزء مهم من موروث سلفه عادل عبد المهدي.
يقول الباحث في سياسات الشرق الأدنى بمعهد واشنطن وهاب بلال إن “الكاظمي يعمل بجد من أجل انهاء نفوذ الجماعات المسلحة، وكان هذا واضحا من خلال الهجوم على مقر كتائب حزب الله، رغم أنها لم تأت بنتائج إيجابية على الصعيد الداخلي العراقي”.
ويضيف في حديث لموقع “الحرة” أنه “بعد هذه الحادثة، توصل الكاظمي إلى حقيقة أن المواجهة المباشرة مع الميليشيات ليست الطريقة الأمثل، وبدلا عن ذلك أخذ يعتمد طريقة تجفيف مصادر تمويل هذه الجماعات. فبدل أن يحاربها، أعلن عن حملة لمحاربة الفساد والسيطرة على المنافذ الحدودية”.
ويتابع أن “قطع التمويل بدل المواجهة العسكرية كان خطوة ذكية من الكاظمي”.
وأظهرت الأحزاب والفصائل مدعومة من إيران عداء متواصلا للكاظمي، حتى قبل توليه رئاسة الحكومة، حيث تتهمه بالميل لصالح المحور الأميركي والتورط في مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني والقيادي في كتائب حزب الله أبو مهدي المهندس.
“بطيئة لكنها فعالة”
ويرى مراقبون أنه بدون مواجهة الفصائل المسلحة فإن أي جهود للإصلاح السياسي والمالي في العراق ستكون جزئية، لكنهم يضيفون أن ملاحقة المسلحين بشكل علني قد يعرض البلد للخطر ويعرقل قدرة الحكومة على إجراء أي إصلاح.
يقول المحلل السياسي العراقي رعد هاشم إن “شبح قرارات وتوجهات عبد المهدي لا تزال هي السائدة في الوسط الأمني والسياسي”، مضيفا أن “الكاظمي يعمل على تقليص هذه السطوة والنفوذ من خلال خطوات لجس نبض الشارع واكتشاف ردة فعل الميليشيات الموالية لطهران”.
يصف هاشم في حديثه لموقع “الحرة” ما يقوم به الكاظمي بأنها “مراحل تمهيدية، فهو لديه النية للتقدم وليس كسلفه الذي سقط في أحضان إيران ووفر للميليشيات الدعم الكامل”.
ويلفت إلى أن رئيس الحكومة العراقية “يعمل بخطوات بطيئة صحيح، لكنها فعالة بعض الشيء”.
“إرث عبد المهدي”
ومؤخرا اتخذ رئيس الحكومة العراقية قرارا يقضي بتشكيل لجنة رفيعة للتحقيق في قضايا الفساد والجرائم الاستثنائية، برئاسة الفريق أحمد أبو رغيف وكيل وزارة الداخلية السابق، على أن يتولى جهاز مكافحة الإرهاب تنفيذ القرارات الصادرة عنها.
وبالتزامن أيضا ألغى الكاظمي، قيادة قوات حفظ القانون، التي شكلها سلفه عادل عبد المهدي لمواجهة الاحتجاجات الشعبية، والمتهمة بارتكاب تجاوزات وعمليات تعذيب بحق المتظاهرين في بغداد ومدن عراقية أخرى.
وقبل أيام أصدر الكاظمي، قرارا يمنع فيه رفع أي علم غير العلم العراقي فوق مباني الوزارات والأجهزة الأمنية وهيئة الحشد الشعبي.
وتخضع معظم الفصائل المسلحة لقوات الحشد الشعبي، وهي مظلة تضم قوات شبه عسكرية. وعلى الرغم من اندماجها رسميا في قوات الأمن العراقية، تنشط عمليا بشكل مستقل وتقاوم جميع المحاولات لكبح نفوذها.
كما أن الغالبية العظمى من هذه الفصائل تدين بالولاء عقائديا للمرشد الإيراني علي خامنئي، وترفع أعلامها الخاصة بها إلى جانب صور خامنئي وسلفه روح الله الخميني في مقراتها.
يقول بلال وهاب “يجب أن ننتظر ما سيقدم عليه الكاظمي. لا زال من المبكر الحديث عن نجاح الخطوات الأخيرة من عدمها،” مرجحا أن “تحاول الميليشيات تقويض هذه الخطوات بطرقها الخاصة”.
ويرى أن “مبادرات (الكاظمي) الجديدة، جزء منها مرتبط بمحاولات فرض نفسه كرئيس وزراء جديد وإلغاء إرث عادل عبد المهدي، ومن جانب آخر هو يحاول إرضاء المحتجين، الذين لولاهم لما وصل للحكم”.
ويختتم وهاب بالقول: “أيضا جزء من هذه الخطوات مرتبط بزيارته للولايات المتحدة والدعم السياسي الذي حصل عليه من واشنطن”.
وأُطيح بعبد المهدي العام الماضي أثناء احتجاجات حاشدة مناهضة للحكومة، قتل خلالها مئات المحتجين، وأصيب آلاف آخرون.
وتولى الكاظمي منصبه في مايو الماضي، ليصبح ثالث رئيس للوزراء خلال فترة من الفوضى استمرت عشرة أسابيع وأعقبت احتجاجات دامية دامت شهورا في العراق الذي أنهكته عقود من العقوبات والحرب والفساد والتحديات الاقتصادية.