احتشد الأسبوع الماضي في العراق بأحداث متوالية ومتناقضة، وتنوّعت ما بين الرغبة الحكوميّة بفرض القانون، والإرادة المليشياويّة في إثبات الذات، والغضب الشعبيّ من فوضى السلاح بعد أن قتلت “صواريخ المليشيات” سبعة أشخاص من عائلة واحدة في الرضوانيّة، بالقرب من مطار بغداد الدولي، يوم الاثنين الماضي، وكذلك عودة مظاهرات تشرين في بغداد وبعض مدن الجنوب يوم أمس الخميس!
الإشكاليّة الكبيرة الجديدة برزت عقب وصول رسالة الأمريكيّين لساسة العراق التي حملها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بعد زيارته لواشنطن قبل شهر تقريباً، لكنّ تداعيات تلك الرسالة بقيت خلف الأبواب المغلقة.
ورغم التبليغات الحكومية غير المعلنة، إلا أنّ بداية الربكة بدأت بعد تسريبات إخباريّة تشير إلى مغادرة السفير الأمريكيّ بغداد إلى أربيل، بعد هجوم الرضوانيّة!
بعض أحاديث الصالونات السياسيّة العراقيّة كشفت، قبل عدّة أيّام، بأنّ الجانب الأمريكيّ حَمّل الكاظمي جملة من المطالب، وفي مقدّمتها إيقاف استهداف السفارة الأمريكيّة وقوّات التحالف الدوليّ في العراق بصواريخ المليشيات، وإنهاء ملفّ مليشيات الحشد الشعبيّ، وتقديم قتلة المتظاهرين للعدالة، وبأنّهم أمهلوا الكاظمي شهراً واحداً لبداية العمل على حسم هذه الملفّات الشائكة!
أتصور أنّ الكاظمي قد نقل رسالة واشنطن بوضوح وشفافيّة لزعماء الكتل السياسيّة ولقادة المليشيات، والتي مفادها بأنّ أمريكا جادّة في تقليم أظافر المليشيات، وإلا فهنالك الكثير من المراحل الدمويّة والمظلمة تنتظر العراق!
دفعت رسالة واشنطن غالبيّة القوى التي كانت تدعي معارضتها للوجود الأمريكيّ؛ إلى إصدار بيانات عاجِلة دعوا فيها إلى احترام، بل وتجريم كلّ من يستهدف التمثيل الدبلوماسيّ الأمريكيّ والغربيّ في العراق!
وعلى خلاف ذلك برزت بعض التصريحات الداعية لاستهداف التواجد الأمريكيّ، وهذه التصريحات غير المفهومة أحرجت بغداد وواشنطن على حدّ سواء!
وفي ساعة متأخرة من ليلة الأربعاء سقطت ثلاثة صواريخ قرب مقرّ أحدّ الأحزاب الكرديّة المعارضة لإيران في أربيل، شماليّ العراق، وثلاثة صواريخ أخرى قرب مطار أربيل، دون وقوف خسائر!
ولا ندري حتّى الساعة ما هي تداعيات هذا الهجوم، ولكنّه يؤكّد أنّ تلك المليشيات تتلقّى أوامرها من وراء الحدود، وليس من وزارة الدفاع كما يفترض أن يكون بموجب القانون!
وفي يوم الأربعاء الماضي أيضاً أكّد وزير الخارجيّة العراقيّ، فؤاد حسين، أنّ السفير الأمريكيّ لا يزال متواجداً في بغداد، وأنّ “التواصل بين الحكومة العراقيّة والسفارة الأمريكيّة ما زال مستمراً، وندعو الإدارة الأمريكيّة إلى إعادة النظر بقرار إغلاق السفارة”!
ونقلت عن مسؤولين سابقين في المخابرات قولهم، إنّ “بعض المسؤولين العراقيّين منزعجين من رسالة بومبيو التي تنطوي على تهديدات صريحة، وإنّ الانسحاب من العراق يعني تقديمه على طبق من ذهب لإيران، وإنّ ترامب قد يقلب في غضون الأسابيع المقبلة سياسة استمرّت على مدار عشرين عاماً في العراق”!
في تصوّري أنّ أمريكا لن تنسحب دبلوماسيّاً من العراق، رغم تهديدات وزير خارجيّتها، بومبيو، ولكن أعتقد أنّ المنطقة، وبسبب الغضب الأمريكيّ وبالذات مع حرص الرئيس دونالد ترامب على الفوز ثانية في السباق الرئاسيّ، ستواجه مرحلة جديدة مليئة بالمفاجآت والتغييرات الجوهريّة!
وفي أفضل الأحوال، فإنّ الانسحاب الأمريكيّ من العراق سيجعل بغداد في مواجهة اللازمة الماليّة الخانقة، وبالذات مع تأكيد اللجنة الماليّة البرلمانيّة منتصف الأسبوع الحالي على عدم مقدرة الحكومة على سداد رواتب الموظّفين للأشهر المقبلة، ومن المحتمل حينها أن ينهار الدينار العراقيّ، وبالذات في حال طبّقت واشنطن عقوباتها بسبب هجمات المليشيات، والتي وصفتها بأنّها “عقوبات لم يروها من قبل، وستكون العقوبات الإيرانيّة ضئيلة بجانبها”!
التطوّرات السياسيّة والأمنيّة وفوضى السلاح في العراق ستقود إلى كارثة سياسيّة خارجيّة مع الدول الكبرى، وفي مقدّمتها الولايات المتّحدة ودول الاتّحاد الأوروبّيّ، واضطرابات سياسيّة داخليّة، ربّما ستؤدي لانهيار النظام السياسيّ العامّ في البلاد، وأخيراً فتنة داخليّة قد تصل تداعياتها إلى غالبيّة دول المنطقة!
مستقبل العراق في هذه الأيّام على مفترق حادّ!
فهل يمتلك الكاظمي القدرة على زَجر المليشيات لإبقاء التمثيل الدبلوماسيّ الأجنبيّ في العراق، أم أنّ البلاد مقبلة على مرحلة الفوضى والظلام السياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ؟