كعادتي كل عام اتصل بالأصدقاء في بيت لحم واقدم لهم التهاني بمناسبة عيد الميلاد المجيد واعياد راس السنة الميلادية وكل سنة اسمع اخبارا جديدة طيبة ومفرحة وفي هذا العام الذي نتفاءل به جميعا وقد توصل العالم الى علاج وباء كورونا وانتهى كابوس ترامب علمت بان مجموعة مباركة من رجال الدين المسلمين والمسيحيين وأساتذة الجامعات والاكاديميين والمفكرين والاقتصاديين والإعلاميين قد اتفقوا في مدينة بيت لحم المباركة على تأسيس المنتدى العربية للتسامح في فلسطين ليكون نواة لمنتديات تسامح في كافة الأقطار العربية وقد شدتني فكرتهم النيرة للتعرف اكثر على المنتدى عندما علمت انه منتدى فكري تنويري تعاوني تنموي يقدم فكرة التسامح كبديل عن خطاب الكراهية الذي ساد المنطقة بشكل كبير وعلني منذ سنة 2011 ومازال يكبر ويتفاعل ويتطور ويأخذ إشكالات عدواني إجرامية متعددة .
ان كلمة تسامح ليس المقصود بها كما في المفهوم الشعبي الدارج ان هناك من أخطأ بحقك وانت تسامحه أي تتغاضى عن ما قام به من خطأ تجاهك , فقد ورد في قاموس مختار الصحاح للرازي السماح والسماحة بالفتح تعني الجود وسمح به يسمح أي جاد به ويجود به وسمح له بالفتح أي اعطاه والرجل الجواد عكس الرجل البخيل والمسامحة تعني المساهلة وتسامحوا تعني تساهلوا أي كونوا لينين واللين هي عكس التشدد وفلسفة التسامح جاءت من اجل نشر المحبة واللين والجود والكرم بين الناس في التعامل, ومن معنى كلمة تسامح جاءت فكرة منتديات وتجمعات التسامح التي انتشرت في العالم العربي ردا على التشدد والتعصب والتطرف الديني والمذهبي والعنصري خلال السنوات الأخيرة فظهور الأفكار التي فسرت الدين الإسلامي على انه دين عنف وظلام ليست وليدة المئة سنة الماضية فقد مر الإسلام حاله حال بقية الديانات خلال تاريخه الطويل بفترات وموجات عنف اغلب اسبابهم الجهل او الاطماع الاقتصادية والتوسعية للطامعين بثروات البلاد والعباد ليقوموا باستغلال الدين في اشغال الناس بالفتن حتى يخلوا لهم الجو ليمارسوا نهب الثروات كما فعل ويفعل اردوغان الان في سوريا والعراق وليبيا والصومال وقد جاء في الحديث النبوي الشريف “اياكم والغلو في الدين فانه اهلك من كان قبلكم حملهم على ان سفكوا الدماء واستحلوا المحارم ” والغلو في اللغة يعني التشدد والافراط ومجاوزة الحد للوصول الى التطرف والذي يؤدي الى الخروج على المفهوم الأصلي للدين وقد برزت تلك الأفكار في عصرنا الحالي مع ظهور حركات إسلامية متطرفة سرية في مصر في بدايات القرن العشرين وقامت بتكفير كل المسلمين ورسمت للعبادات خطا يتماشى مع أيديولوجية التطرف التي تتبناها وسرعان ما انتشرت في بقية الدول العربية وفيما بعد وعبر السنوات التالية ظهرت من تحت عباءتها نسخ لحركات متعددة وبأسماء مختلفة ساهمت في نشر الكراهية والعنف وقد اعتبرت تلك الحركات ان جميع المسلمين كفار مالم يفهموا الدين ويطبقوه حسب تفسيرهم له ويكفرون من لم يمارس العبادات مثلهم وقد قاموا بتحويل العبادات الى محددات وتقاليد بعيدة جدا عن الإسلام الحقيقي حيث تحولت الصلاة اليومية مثلا الى حركات رياضية بدون أي فهم او روحانية في الأداء وتحول الفرد من اتباعهم الى ببغاء تحفظ النصوص والادعية بدون فهم لمعناها او الحاجة الفعلية لها وعدم السماح لأعضاء تنظيماتهم بالاطلاع على أي مفاهيم إسلامية لا تتماشى مع مفهومهم احادي الجانب للدين بحيث اصبح ترديد الادعية التي يوزعونها على اتباعهم تغطي حياتهم اليومية بشكل يخلق الوساوس والمخاوف في قلوب الناس فاذا دخل السوق او المرحاض او البيت او السفر او العمل او او … حتى عندما جامع زوجته عليه ان يقرأ الدعاء الخاص بتلك الأماكن والافعال واصبح الدين هو زي محدد للملابس واصبح الإسلام عبارة عن اللحية الطويلة الكثة والثوب القصير والمسواك ومن سالته ما هذه الأزياء المضحكة يقول لك انه يقلد السلف الصالح وهذه حيلة لكل من يريد ان يدفع عنه شبهة الانتماء لتلك الجماعات التكفيرية و يقول انه يقلد السلف الصالح وكأن هناك سلف صالح وسلف غير صالح أي قاموا بتكفير حتى السلف ونصبوا انفسهم اله على الأرض ولقد وضعوا أعضاء حركتهم في مربع مغلق , وبعد ان قاموا بتكفير كافة المسلمين توجهوا الى اتباع الديانة المسيحية الذين يعيشون مع المسلمين منذ الاف السنين بدون ان يفكر احد منهم في دين الاخر وتفاصيله ومعتقداته واخذت موجات تكفيرية سنوية وموسمية تعم الشارع العربي يرددها جهلة ومنتفعين يفسرون القران الكريم على طريقتهم الخاصة . فمن لم يفهم الله حسب فهمهم له فهو كافر وتهمة التكفير لديهم سهلة جدا وهم يعتقدون ان لديهم توكيل إلهي بتكفير الناس وبذلك تم الغاء مفهوم الثواب والعقاب في الاخرة لأنهم يمارسونه في الدنيا وخرجوا على المفهوم الايماني بوجود إله سماوي والنتيجة انهم قاموا بإلغاء مفهوم يوم القيامة عمليا.
في هذه السنة وقبل أسبوع من أعياد الميلاد المجيد خرج علينا التكفيريين في الكثير من الأقطار العربية بمفهوم تكفيري جديد فأفتى شيطانهم ان من يهنئ المسيحيين في عيد ميلاد السيد المسيح من المسلمين فهو كافر والسبب ان المسيحيين كفار بسبب انهم لا يوحدون الله مثل المسلمين بل يثلثون الله , لقد قال الله سبحانه وتعالى في سورة هود “ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولايزالون مختلفين “, ان الحكمة الإلهية ان تكون هناك ديانات متعددة ولو شاء الله لجعل الناس على دين واحد وحكمة التنوع الديني ان كل دين جاء في زمن مختلف وظروف بشرية مختلفة فلا يجوز ان نفرض على المسيحي ان يؤمن بالله كما نؤمن نحن به فمثلا ان يقول اشهد ان لا اله الا الله وان عيسى المسيح نبي الله او ان نطلب من المسيحي ان يتوضأ مثلنا عندما يدخل الكنيسة او ان يصنع له كعبة يطوف حولها ويؤدي نفس مناسكنا عندما نحج الى بيت الله الحرام لان ذلك يعتبر تدخلا سافرا في دين آخر لم يجرؤ عليه حتى النبي محمد (ص) في قمة انتشار الإسلام عندما احترم الديانة المسيحية وكانت علاقاته متينة بالمسيحية منذ نزل الوحي عليه في اول يوم حين صدقه ورقة ابن نوفل الراهب المسيحي خال زوجته مرورا بحماية ورعاية ملك الحبشة رئيس الكنسية للمسلمين ثلاثة عشر عاما في بداية ظهور الإسلام لغاية ان صلى النبي محمد (ص) صلاة الغائب على ملك الحبشة وطلب من كل الصحابة في المدينة المنورة الصلاة معه وهذه حادثة تاريخية مشهورة ومازالت الروابط الروحية والايمانية مستمرة بين اتباع الديانتين ليومنا هذا.
عندما يحاول التكفيريين قياس المفاهيم الدينية للمسيحية بالمقياس الإسلامي فقد خرجوا على الآية الكريمة “لو شاء الله لجعلكم امة واحدة ” وهنا دخلنا فعليا في الكفر لان مفهوم الكفر انك تخرج على النص الالهي وتفسره بما يلائم نواياك البشرية , ولو كان الناس جميعا على دين واحد ومارسوا نفس الطقوس وبنفس الطريقة لتحولت البشرية الى زومبي او روبوت يقوم بحركات بدون فهم او شعور او روحانية ولتمت المحاسبة في الدنيا من قبل قضاة بشريين وعندها أيها المتطرف فقد الغيت وظيفة الاله ونصبت نفسك مكان الاله من جانب والغيت يوم القيامة من جانب اخر. ان متعة الحياة ان يخطأ الانسان وقوم بإصلاح خطاه وليس ان يخلق ملاك ويموت ملاك فاين سيجد المتعة ؟ ومتعة الحياة ان يبني الانسان نفسه فكريا وماديا ومعرفيا وليس ان يولد ويعيش الى ان يموت وهو عالم فقيه بالدين والدنيا.
وردا على موجه الشر والكراهية والتكفير التي وصلت ذروتها بتنظيم داعش الإرهابي الذي خرج على النصوص القرآنية كاملا فقد ظهرت خلال السنوات التي أعقبت اندحار داعش في الشرق الأوسط أفكار تنويرية تسامحيه على شكل تجمعات فكرية ومنتديات ومنظمات تنشر التنوير وتفند التكفير بنصوص قرانيه واضحة وصريحة وقد بادرت دولة الامارات العربية المتحدة في دعم فكرة التسامح فقامت بتأسيس وزارة التسامح لتأخذ على عاتقها تطبيق فكرة التسامح والتي تعني التساهل والجود واللين والكرم والتعامل الراقي مع الاخرين في مجتمع دولة الامارات العربية المتحدة والمنطقة العربية, وفكرة منتدى التسامح في مدينة بيت لحم المقدسة قد جاءت في غمرة حملات التكفير التي اجتاحت فلسطين والمنطقة بشكل عام هذا العام مع حملات احراق أشجار الميلاد الموجودة اما الكنائس وحملة خطباء المساجد التكفيريين لتسميم أجواء الأعياد والناس قد أصابها وباء كورونا وتوقفت أعمالها وكسدت تجارتها ومع الأسف الشديد فقد صدرت فتوى من قسم الوعظ والإرشاد في غزة بتحريم المشاركة في احتفالات أعياد الميلاد وتمت محاصرة مظاهر الاحتفالات وتحديدها في عموم قطاع غزة وفق خطة شملت كافة القطاعات والدوائر الرسمية وفي تجاوز خطير اخر ومن مدينة القدس اصدر الدكتور محمد سليم على احد أئمة المسجد الأقصى المبارك فتوى بنفس معنى التحريم والتجريم ومن داخل المسجد الأقصى المبارك وتم نشر تلك الفتاوى في وسائل الاعلام ولغاية كتابة هذا المقال بدون أي رد فعل من قبل الجهات الرسمية المسؤولة في داخل وخارج الأماكن المقدسة وردا على حملات التكفير والكراهية تلك فقد تبلورت فكرة منتدى التسامح في بيت لحم والتي شاركت فيها الشخصيات الدينية والأكاديمية والفكرية والاقتصادية من اجل ان يكون نموذجا عالميا للتعايش والتعاون والتساهل والعطاء والجود والكرم تقتدي به المجتمعات الإنسانية ويعطي للعالم صورة مشرقة عن المجتمع العربي الحقيقي الذي يضم الاسلام والمسيحية وليكون ذلك المنتدى حركة إنسانية جديده لا تقل أهمية عن حركة الحقوق المدنية التي تأسست في أمريكا والتي انهت التمييز العنصري هناك والى الابد ولينهي المنتدى العربي للتسامح فكرة الغلو في الدين ويسكت والى الابد خطاب الكراهية ويغلق صفحة سوداء من تاريخ البشرية في تحريف الدين واستغلاله في قتل البشر وتدمير الحضارات ولتطبيق فكرة التسامح على ارض الواقع فقد قام مجلس أمناء منتدى التسامح في مدينة بيت لحم المباركة بربط فكرة التسامح مع إقامة مشاريع تعاونية اقتصادية إنتاجية تستفيد منها المجتمعات المحلية في فلسطين وترفع المستوى المعاشي للناس وتقوم بإعمار مناطقهم التي تعاني من الإهمال منذ ان تركها العثمانيين بدون أي بنية تحتية وتربط المجتمع الفلسطيني من المسلمين والمسيحيين برباط المحبة والتعاون وبناء مستقبل مزدهر لتسابق الزمن من اجل تعويض ما فات من الزمن جراء سياسات عبثية واللحاق بركب التطور العالمي.
973