النسيان

أ. د. محمد طاقة

النسيان حالة إنسانية يتمتع بها الجميع وبدرجات متفاوتة ، فهو الدواء الشافي لجميع ما تتركه الحياة وكذلك المجتمع من آثار واثقال نفسية على الانسان.
إن البشرية كلها تعاني من تعقيدات الحياة ، وما تفرزه من مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية ، تؤثر ، بنحو مباشر وغير مباشر ، على حياة الانسان وفِي بقاع الارض كلها.
الانسان مليء بالمشاعر والأحاسيس والعواطف ، ويتأثر بما يدور حوله من حلو الحياة ومرها ، والمر منها هو السائدفي حياتنا ، وكذلك يتأثر بالنجاح والفشل ويتأثر بفراق الاحبة ، وبالأخص فراق الوالدين والاخوة
والأبناء والاصدقاء. وجميعها تخزنها ذاكرة الانسان ، وهذا الخزين من الذكريات المؤلمة إذ لم يفرغ فسيشكل عالة وثقلا على نفسية الانسان ويؤذيه بحيث لا يتمكن من الاستمرار بالحياة ، بصفة طبيعية.
لولا النسيان لما تمكنا من ان نبدأ حياة جديدة كل يوم ، فالنسيان مهم جدا لديمومة الحياة وتجديدها ، فماذا يحدث لو تذكر الانسان كل شيء ولم ينس ؟ من المؤكد انه سيفقد عقله وتوازنه ويصاب بالجنون ، جراء التراكم والخزين الذي سيتراكم في ذاكرة كل إنسان من مآسي الحياة وإفرازاتها المؤلمة.
لا بد من النسيان حتى لا يفقد الانسان توازنه ولكي يكون طبيعيا ومعتدلا.
ومن الجميل جدا ان ينسى الانسان المواقف السيئة والمحزنة ، ويميل الى تذكر الاحداث والمواقف السارة ، ولكن هذا يتطلب منه تعويدا وتمرينا.
رغم ان الذاكرة هي التي تعيد الاحداث والمواقف وترتيبهما بما يجعل الانسان يواجه شؤون الحياة ، بنظرة تفاؤلية. ومستقبلية. فبالامل نعيش ونحيا
بنعمة النسيان ، ونتمكن من تجديد حياتنا دائما ، وتجديد قدراتنا وأمكانياتنا من اجل ان نعيش حياة خالية من الذكريات المؤلمة والسيئة والمعاناة الاجتماعية والاقتصادية الثقيلة.لذلك فالنسيان نعمة كبيرة من نعم الله علينا ، لأننا لو بقينا نتذكر ما مر بِنَا من حزن وسوء وظلم وجوع ومآس مرت علينا ، فلن نستطيع إكمال الحياة ، اذ يكون الانسان شبيها بالاسفنجةًالتي تمتص السوائل كما النسيان فهو يمتص الكثير من الاحزان فينقذ الناس من سوء احوالهم.
إن الحياة كم من الذكريات تصب جميعها في انهر النسيان ، لذا يمكن ان نعده شكلا من أشكال الحرية لانه يخلص الانسان من قيود الذكريات المتراكمة والتي تقيد التفكير وتثقل كاهله ، كما علينا ان نتدرب عليه لنستطيع العيش بحرية واعتدال.
ان النسيان يحدد ثقافة الانسان ، التي هي ما تبقى من ذاكرته ، او هي ما نتذكره بِعد نسيان كل شيء.
ومن المفيد للإنسان احيانا نسيان ما يعرف ، لان ذلك يساعده على التغلب على مصاعب الحياة ومصائبها. وإذا لم ينس الانسان هذه المصائب والمصاعب لكانت الحياة بالنسبة له مظلمة بأبعادها وتفاصيلها كلها.
وبالفعل فهو نعمة من نعم الله يستطيع الانسان ان يتجاوز بها همومه وأحزانه وينسى الجراح ، التي تثخن نفسه والبلاءات التي عاشها وعانى منها ، إذ لولاه لبقينا في دوامة أحزاننا وغرقنا في بحور همومنا ، ولظل البال مرهقا والفكر في عناء. ولولا النسيان لما تمكن الانسان من التكيف والعيش والتغلب على الاحداث الاليمة والمفجعة كلها ، اذ يكون النسيان ، هنا ، بمنزلة أداة تصفية وتنقية لكل ما يواجه الفرد في حياته.
إذن النسيان ضرورة موضوعية للإنسان كي يتحرر من قيود الذكريات الاليمة والمعاناة المريرة، وعلى الانسان ان يعود نفسه على النسيان ومن حقه ان ينسى ما يؤذيه ويعطل فاعليته في الحياة.ولكن في الوقت نفسه ، عليه ان لاينسى القيم العليا في الحياة ، وهي قيمة الانسان والاوطان ، فكيف سيكون الحال إذا كان الوطن هو العراق العظيم ، أبو الحضارات ، ( أور وأكد وبابل وآشور ) ، العراق الذي علم الانسانية الكتابة وسن القوانين ( ومسلة حمورابي شاهد على ذلك ) العراق وطن الشجعان وطن اسود الرافدين ، اسود دجلة والفرات ، العراق الذي انعم الله عليه بالخيرات كلها.
هذا البلد الذي يستحق منا جميعا
أن لا ننساه ، ونمحو كل شيء من ذاكرتنا إلا أهلنا والعراق. عراق الخيرات والكرم والجود. علينا أن نعود وندرب ذاكرتنا كل يوم وساعة ولحظة على ان لا ننسى العراق العظيم.

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى