خلال الأسبوع الماضي عاش الأردن وشعبه الأبي أيام وساعات حزينة على أثر واقعة مستشفى السلط الجديد، فكانت الحُرقة والأسى عنواناً لتلك اللحظات بعد أن أُزهقت أرواح بريئة، نتيجة إهمال نفرٌ ضال من اللامباليين بواجبه المقدّس، ذلك الواجب الذي يعتبر أنبل مهنة إنسانية ووطنية في هذا الظرف العصيب الذي يمر به سكان كوكب الأرض ومنها بلدنا العزيز الأردن. وما رافقها وما بعدها من أحداث مؤسفة وفوضى عارمة في عدد من المدن الأردنية غير أبهين بنتائج تلك الأحداث وغير لافتين عمّا يترتب عليها من عواقب ربما تكون وخيمة على الجميع، خاصة وأن الأردن يعيش حالة اقتصادية لا يُحسد عليها نتيجة تفشّي وباء كورونا وفي وتيرة متصاعدة، هو أحوج الآن من أي وقت مضى إلى تضافر الجهود ومؤازرة بعضهم البعض، كما أن هذه الأحداث وما صدر عنها من بعض المحرّضين وفي حالات متكرّرة، مسّت النظام القائم بشكل عام.
ومن باب الحرص والعطف وفي هذا التوقيت بالذات نُعيد هنا وبتصرّف جزء مما كتبه الكاتب صفوة فاهم كامل في كتابه (عراقيون في الأردن … رؤى وانطباعات وحكايات) الصادر عام 2018، عن رؤيته لأحداث جرت في العراق عام 1958، وحصل ما حصل فيها وجرى ما جرى بعدها:
[أعتبرَ الكثير من المؤرخين والمراقبين والمحللين، إن انقلاب 14 تموز 1958، هو الحد الفاصل والحاسم في تاريخ العراق الحديث بل نقطة تحوّل جذرية في انتقال البلد من حالة إلى حالة أخرى، جرّت من وراءها ويلات مظلمة وحالكة بدأت واستمرت ولم تنتهي لحد الآن.
هذا الانقلاب الذي خسـر فيه العراق وإلى الأبد عائلتهِ الحاكمة الشريفة تلك العائلة التي حكمت البلاد على مدى سبعة وثلاثين عاماً من سنوات القرن الماضي، ما لبثت أن سقطت مضرّجة بدمائها الزكية على يد زمرة غوغائية، غيّرت مجرى الحياة والتاريخ معاً.
أبرز ضحايا هذا الانقلاب هو ذلك الشاب اليتيم البريء، وقمر العراق الصافي، جلالة الملك فيصل الثاني، سليل الأسرة الهاشمية الشـريفة وأبن الملك الشاب غازي الأول وحفيد مؤسس الدولة العراقية، الملك فيصل الأول. كما كان من ضحايا ذلك اليوم الأسود وليّ العهد وخال الملك الأمير عبد الإله بن الملك علي، وجدّته الملكة نفيسة، وخالته ومربّيته الأميرة عبدية، إضافة إلى عدد من المرافقين ممن سكنوا قصر الرحاب وتواجدوا فيه وقت الحادث الأليم.
الملك المغدور فيصل، لم يكن له لا أخ ولا أخت ولا ولد، ولم يكن متزوجاً في حينها. وبوفاته المأساوية هذه أنقطع نسل الملك فيصل الجدّ المنحدر عمودياّ من الجدّ الكبير الشريف حسين، وبوفاة الأمير عبد الإله، انقطع أيضاً نسل الملك علي من الذكور.
إن أغلب العراقيون مّمن ارتحلوا إلى الأردن بعد عام 2003، هم من الأجيال التي لم تُفطن وتدرك كثيراً ذلك العهد الزاهر أو ممن ولِدوا بعد زوال ذلك النظام، لكنهم ومن خلال متابعتهم لطبيعة النظام الملكي القائم في الأردن، ومقارنة الأنظمة المتعاقبة في العراق وبعض الدول العربية مع ما سمعوه وما ينشـر اليوم عن النظام الملكي العراقي، أصبحت لديهم قناعة ومعرفة بإيجابيات الأنظمة الملكية الحاكمة وخاصة في الدول العربية، وحكّامها الذين ينحدرون من جدهم الأكبر النبي محمد ﷺ، وبدأ شعورهم بالحنين والتأييد للنظام الملكي في العراق والمطالبة بعودتهم إلى الحكم والترحم على أفراده المغدورين من جور الظلم الذي وقع عليهم، بل أن بعضهم طالب بمحاكمة معنوية، للضباط والساسة الذين خططوا وساهموا وشاركوا بمقتل هذه العائلة كردّ اعتبار لها، وظهر ذلك جلياً من خلال التجمعات والاستذكارات السنوية التي تقيمها منظمات المجتمع المدني والتي تجري في 14 تموز، من كل عام وكذلك صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة وتحت مسمّيات وعناوين مختلفة.
الأديبة العراقية والباحثة الاجتماعية السيدة مي شبر والمقيمة في عمّان منذ عام 1993، كانت قد رثت العائلة المالكة، بعد فترة وجيزة من انقلاب 14 تموز 1958، بقصيدة مؤثرة، وكأنها تحاكي واقعاً مؤلماً سيحدث للعراق فيما بعد، وهذا ما حدث فعلاً بالقول والحقيقة، قائلة:
ألا ليت الزمانُ يعيدكم لنصرة المظلومِ والأحبابِ
فالحكمُ بين متمسكٌ بالدينِ زيفاً وآخر فوضى وإرهابِ
أما الكاتب والإعلامي الأردني المعروف عصام المجالي، فقد حرّر في زاويته بإحدى الصحف الأردنية عام 2012، مقالة تحت عنوان «عفويّة سيدة عراقية» ذكرَ فيها: (يخطر في ذهني وانا اكتب هذه الأفكار، ما قالته سيدة عراقية فاضلة تقيم في الأردن من كلمات، وخلال لقائي بها صدفة في احدى المحلات التجارية ودون معرفة سابقة. هذه الكلمات ما زالت تصدِّع رأسي من داخله، ناقوس كبير يدق في رأسي. لقد قالت هذه العراقية الفاضلة وموجهة حديثها بطريقة عفوية: يا إخوان أوصيكم بعائلتكم الهاشمية، حافظوا على بلادكم وعلى الحكم الملكي الوطني … لقد ضيّعنا حكمنا الملكي الهاشمي في العراق وشوفوا حالنا والمحنة العراقية التاريخية المستمرة التي نعيشها والأزمات الراهنة والانقسامات الخطيرة في كافة ألوانها وعناوينها تنعكس بهذه المحنة المزمنة في الجسم العراقي نتيجة الخطأ التاريخي الذي ارتكبه العراقيون بتخليهم عن النظام الملكي … نداء استغاثة من هذه العراقية الماجدة ومعها أغلبية الأردنيين لعلّه يجد البعض صداه، فلنحافظ على وطننا وحكمنا الهاشمي الملكي الوطني الذي أعطى الحصانة الإلزامية للأردنيين منذ عهد الملك المؤسس رحمه الله، من التعرض للإهانة والحرمان والفقر والتعذيب والقمع. الله يحفظ قيادتنا الهاشمية الحكيمة ووطننا الأردن آمنا ومستقراً…).
ونحن أيضاً كجالية عراقية كبيرة ومقيمة في رحاب الأردن منذ سنوات مُلتاعة وحريصة على بلد أحببناه بكل جوارحنا وعشنا بين أهله الكرام وشاركنا أفراحهم وأحزانهم، نؤازر ما قالته هذه السيدة العراقية العفيفة، ونشدُّ على كلمة الكاتب الخليق السيد المجالي، ونُناصره ونقول لأشقائنا وأحبائنا وأبناء عمومتنا في الأردن:
حافظوا على نظامكم الملكي الهاشمي … وقيادتكم الوطنية الحكيمة… لا تُغضبوا مليككم سامي المقام … حافظوا على شعبكم موحداً صابراً… دافعوا عن الأردن أرضاً وسماءً… فوّتوا الفرصة على أعدائكم في الداخل والخارج، وتفكّروا قبل أن تندموا يوم لا ينفع الندم فيما سيفسده الدهر. فالهاشميّون هم من صانَ العرب والعروبة منذ الثورة العربية عام ١٩١٦، وما زالوا، ومسيرتهم مستمرّة … بإذن الله.]
وصدقَ أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
لكَ في الأرض والسـماء مآتمْ … قام بها أبو الملائكِ هاشمْ
تلك بغدادُ في الدموعِ، وعمّا … نُ وراءَ السَّوادِ، والشامُ واجم