بغداد بين فصول صيف تغلي وشتاءات ساخنة

لو خرجت إلى شارع الأحداث السياسية التي عاشها العراق بعد 14 تموز 1958، وهنا لا أريد أعطي لما جرى في ذلك اليوم وصفا محددا وأترك للقارئ أن يختار له الوصف الذي يناسب انتماءه السياسي، فسوف ألاحظ أن “الزعيم الركن عبد الكريم قاسم” لم يتمكن من مغادرة موقعه كآمر للواء التاسع عشر الذي دخل بغداد بعد عدة ساعات من انجاز التغيير الذي نفذه اللواء العشرين من الجيش العراقي الذي تولى العقيد الركن عبد السلام عارف إمرته أثناء تحركه من معسكره نحو بغداد، نعم عبد الكريم قاسم ظل يتصرف “كآمر لواء” طيلة السنوات التي أمضاها في الحكم، فهو لم يخلع بزته العسكرية ليس زهدا في الحياة المدنية، على الرغم من عدم وجود مبرر لذلك، إلا أن يكون قد أهمل حياته الخاصة فلم يتزوج ولم يكوْن أسرة تشده إليها، وكان حريصا على الحصول على الترقية العسكرية في وقتها المحدد، إذ أصبح لواء ركن يوم 6 كانون الثاني 1959، ثم فريق ركن في 6 كانون الثاني 1963 ثم أطيح به بعد أربعين يوما من حصوله على هذه الرتبة يوم 8 شباط 1963، فما هو التبرير الذي كان يدفعه لهذا السلوك؟ هل هي رغبته في التأكد من قدرته على ضبط حركة القوات المسلحة من خلال تقاليد الجيش العراقي المعروفة بدقتها وضبطها الصارم فيريد أن يظهر أمام الشعب والجيش بالبزة العسكرية لتحقيق هذا الهدف المستحيل في عراق سريع الولاء وسريع الانتقال إلى الرصيف الآخر؟ وهل شفعت الرتب العسكرية لمن سبقه وحصنتهم من خطط التحرك المضاد، وهو أحد قادة الحركة التي انقلبت على رجل كانوا يعتمدون عليه شخصيا في دوام حكمهم؟ ثم إن قاسم واصل اعتماده على اللواء التاسع عشر الذي كان آمره حتى يوم 13 تموز 1958، في الحفاظ على نظام حكمه وعلى القوة العسكرية المتواجدة في وزارة الدفاع ولم يضمن ولاء بقية الفرق والألوية في الدفاع عن نظامه، كما أنه لم يخرج من مبنى وزارة الدفاع لأنه بقي محتفظا بمنصب وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، ويبدو أنه كان يعيش هاجسا قلقا بشأن ولاء الشعب والجيش له، وأستطيع أن أجزم أن عبد الكريم قاسم كان دكتاتورا لا يمتلك أدوات الدكتاتورية، على الرغم من أننا نستطيع أن نقول إنه رجل وطني ونزيه.
تقلّب الزعيم في مواقفه السياسية تجاه الحركات والأحزاب الفاعلة في الشارع العراقي واعتمد سياسة “فرّق تسد” لإضعافها والبقاء في السلطة مع أنه أنهى من الناحية الشكلية الفترة الانتقالية عام 1960 وأجاز بعض الأحزاب، ولكنها كانت أحزابا صوريّة لا تمتلك شعبية حقيقية، فقد اعتمد على شق الأحزاب التي دعمته وراهنت عليه وارتكبت فضائع دفاعا عن حكمه وفتحت بوابة الدم في العراق والذي ما زالت نواعيره تدور بلا توقف منذ ذلك الوقت، فالحزب الشيوعي تم شقّه بإجراء حكومي لا يستند على حقائق ملموسة على مستوى القاعدة الشعبية، وذلك عندما جاء بالسيد داوود الصايغ ومنحه إجازة رسمية لتشكيل حزب علني باسم الحزب الشيوعي مع حق إصدار جريدة يومية مع أنه كان يعرف أن زعامة الحزب كانت معقودة للإيراني حسين رضوي والمعروف حزبيا باسم سلام عادل وأن “أوسع الجماهير الشيوعية” هي مع التنظيم الذي يقوده سلام عادل، وكذلك شقّ الحزب الوطني الديمقراطي وجعل من السيد محمد حديد وزير المالية زعيما للحزب ومنافساً لقيادته التاريخية السيد كامل الجادرجي، كما أجاز تأسيس الحزب الإسلامي وكانت الاجازة باسم السيد نعمان عبد الرزاق السامرائي، وهو واجهة لجماعة الإخوان المسلمين، الذين قايضوا بسلوكهم هذا، اي منح الحكومة للإخوان اجازة تأسيس الحزب من قبل النظام القائم بمنح النظام شرعية الاستمرار بممارسة القتل مباشرة أو عن طريق قوى محسوبة على اليسار، كما منح عبد الكريم قاسم الحزبَ الإسلامي إجازةَ إصدار صحيفة “الجهاد” والتي أُغلقت بعد فترة وجيزة بسبب الافتتاحيات التي تُنشر فيها والتي حاول الحزب الإسلامي تبرير تصرفه المشبوه هذا بالتلاقي مع نظام قاسم بشن الهجوم عليه إعلاميا في النهار، في الوقت الذي يلتقي معه سياسيا في ليل العراق الطويل، فما أشبه الليلة بالبارحة،.
لكن هذه التغييرات لم تمنح الزعيم رصيدا شعبياضافيا، بل أفقدته ثقة الأحزاب الأم.
جاءت هذه التدابير المرتجلة بعد سلسلة من الأخطاء والحماقات التي اُرتكبت بموافقة الزعيم قاسم أو بدعمه أو علمه من دون أن يُقدم على إجراءٍ لردع القتلة والمجرمين الذين نفذوا حمامات الدم في الموصل وكركوك وبغداد، وبالتالي فهو يتحمل المسؤولية العظمى منها وكان هدفه الرئيس اقتلاع جذور حركات سياسية ذات جذور شعبية راسخة مثل البعث وبقية القوى القومية التي كانت تناصب نظام الحكم القاسمي العداء وتصفه بالشعوبية والعداء للأمة العربية، وقد انتبه متأخرا يوم لم تنفعه انتباهة الغافلين فحاول تعديل سياساته في وقت متأخر، من خلال وصفه للشيوعيين بالفاشيست في خطبته الشهيرة في كنيسة مار يوسف 1960 أو بإنهاء مرحلة الانتقال، هذه الخطوات الفوقية جعلته يخسر رصيده من المؤيدين المدافعين عنه بقوة وهم الشيوعيون، ولم يكسب رصيدا جديدا في أوساط أعدائه التقليديين أي البعث والقوى القومية، وعلى مستوى الإعلام أطلق إذاعة جديدة أسماها “إذاعة الوطن العربي الكبير” والتي صار مسؤولا عنها كل من عبد اللطيف السعدون وإبراهيم الزبيدي، وسمح بتميزها عن الأجواء الحزائنية خلال شهر محرم من كل سنة، إذ كانت تلك الإذاعة تواصل بث الأغاني والموسيقى وبرامج الفرح ولم يحتج معمم أو حزب ولم تُحرق مكاتب الإذاعة والتلفزيون، وكانت مرسلات هذه المحطة في منطقة المدائن وهي محطة تم التعاقد عليها مع الاتحاد السوفيتي ويوم 8 شباط 1963 بقيت هذه المرسلات وكذلك محطة تلفزيون بغداد تبث برامج موالية “للزعيم الأوحد” حتى تم وصول قادة الثورة إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون من بعد ظهر يوم 8 شباط، وهي أقوى بكثير من قدرة إذاعة بغداد وأبعد مدى منها والتي تقع مرسلاتها في منطقة “أبو غريب” والتي استخدمت مرسلاتها لإذاعة البيانات الأولى لثورة 14 رمضان”8 شباط 1963″..
كانت خلايا حزب البعث تنشط بقوة وتتوسع دائرة التنظيم الحزبي الذي استقطب اندفاعا كبيرا من طلبة المدارس المتوسطة والثانوية والجامعية، وتحولت بعض كليات جامعة بغداد إلى ما أطلق عليه العقيد فاضل عباس المهداوي وصف أوكار للبعث وخاصة كلية الآداب، عندما كنت في متوسطة المنصور في كرادة مريم، كانت منشورات حزب البعث تصلنا بانتظام بما في ذلك جريدة الاشتراكي الجريدة الرسمية للحزب، وبدأ البعث باختبارات جماهيرية للتعرف على جاهزية قوته على مستوى الشارع فنظم في بغداد تظاهرات حاشدة إما يفتعل لها مناسبة من قبيل استنكار اعدام شهداء أم الطبول الذين أعدمهم عبد الكريم قاسم يوم 20 أيلول 1959 وهم رفاقه في تنظيم الضباط الأحرار، بل هم المؤسسون لهذا التنظيم الذي أطاح بالنظام الملكي فأكلت الثورة رجالها تباعا وغدر بهم، أو التظاهر لدعم الثورة الجزائرية، أو استغلال خطأ يرتكبه نظام قاسم مثل رفع أسعار البنزين والذي أدى إلى حصول أول إضراب واسع النطاق خطط له البعث، قطع حركة السيارات في شوارع بغداد على نحو رأته السلطة بعيون رجالها، وكذلك الاستقبال الحاشد في مطار بغداد “الذي أصبح اسمه مطار المثنى” والذي أعدّه الحزب لاستقبال القائد الجزائري المناضل، السيد أحمد بن بلة رحمه الله والذي أُطلق سراحه بموجب اتفاقية إيفيان بين جبهة التحرير الوطني الجزائرية والحكومة الفرنسية عندما قرر الرئيس الفرنسي الجنرال ديغول ترك الجزائر، وأذكر أنني كنت أرتدي بموجب تعليمات حزبية، الساعة باليد اليمنى وقميصاً أبيض وتم إحكام الزر الأعلى منه، وعلامات أخرى لتشير إلى أن من يرتدي هذه الملابس هو أحد أفراد الانضباط البعثي للتحكم بتصرف المتظاهرين وبالشعارات التي يتم توزيعها بطريقة افتقدناها فيما بعد، حتى بت أطرح سؤالا مع نفسي … هل نحن أثناء الضغط البوليسي علينا، نكون أكثر ابداعا وتألقاً في تحريك الجماهير وقيادتها من وجودنا قادة للسلطة؟ كانت لوحة من القماش الأبيض على طول واجهة المطار أي من مدخل الطريق إليه إلى خروج السيارات منه، عليها شعار الحزب “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، وخُطّت باللون الأحمر، كانت المرحومة هناء العمري تقف بشموخ وتحرّض الجماهير بصوتها القوي، “من مراكش للبحرين شعب واحد لا شعبين” و “ابن بلة أهلا بيك حزب البعث يحييك” وغيرها من الشعارات القومية التي شقت عنان السماء بأصوات عشرات الآلاف من البعثيين المستعدين للمواجهة مع الانضباط العسكري، وعندما رأت الجهات الحاكمة هذا الحشد وعجزت عن تفريقه بكل الوسائل وعجز العقيد عبد الكريم الجدة آمر الانضباط العسكري، عن إقناع هذا الحشد الجماهيري أو اتخاذ أي إجراء عنيف ضده مع وجود أعداد كبيرة من النساء البعثيات المستعدات للتضحية، أجرت السلطات اتصالات سريعة لتأخير وصول طائرة بن بلة، ولكن هذا التدبير أدى إلى نتائج عكسية، إذ مع كل ساعة كانت الجموع تتحشد أكثر فأكثر ومن مختلف التوجهات الشعبية المسيسة وغير المسيسة، حتى قيل لنا أن بن بلة عندما رأى هذا الحشد البعثي ذهب به الظن أن البعث هو الحزب الحاكم فقال لقاسم، “أشكر سيادتكم والشعب العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي على هذا الاستقبال الرائع”، مما أحرج عبد الكريم قاسم حرجا شديدا مع ضيفه، المهم بعد أن وصلت طائرة بن بلة وغادر المطار رفقة عبد الكريم قاسم، لم تتوقف التظاهرة بل تحركت متجهة إلى ساحة الشهداء عبر علاوي الحلة، وقدّرها المراقبون الرسميون بأنها كانت تضم حوالي 60 ألفا من البعثيين ومؤيديهم، وإن كانت أرقامنا مختلفة كثيرا عن هذا التقدير المتواضع، الذي أعلنته أطراف رسمية، وفي كل الأحوال فإن خروج هذه التظاهرة كان استعراضا لقوة البعثيين، ولكن عبد الكريم قاسم لم يشأ أن يفهم نبض الشارع العراقي الذي خسره بمزاجه الحاد والمتقلب.
ومما ساعد على انتشار البعث على مستوى الشارع العراقي، هو النقل الحي لجلسات المحكمة العسكرية العليا الخاصة “محكمة المهداوي، أو محكمة الشعب” برئاسة العقيد فاضل عباس المهداوي والتي شُكلت للمعارضين لحكم قاسم وقلصت من الرصيد المفترض لنظامه، لأن الخاضعين لأسوأ ما شهدته المحاكم العراقية من اهانات للكرامة وتعذيب جسدي ونفسي، كلهم ممن ساند ووقف مع حركة 14 تموز بل ومن القوى التي خططت لها مثل حزب البعث العربي الاشتراكي الذي شارك في أول حكومة برئاسة قاسم باسم أمين سر القيادة القطرية للحزب السيد فؤاد الركابي رحمه الله عندما أصبح وزيرا للإعمار وهو في منتصف العشرينات من عمره.
غير أن محاكمة المتهمين بمحاولة اغتيال قاسم في شارع الرشيد منطقة رأس القرية في السابع من تشرين الأول 1959، فقد وقف قادة الحزب وهم في العشرينات من أعمارهم ببسالة أم سياسة الإرعاب التي مارسها معهم كل من رئيس المحكمة العقيد المهداوي أو المدعي العام للمحكمة المقدم الحقوقي ماجد محمد أمين، أو جمهور الغوغاء من الذين فُتحت أمامهم أبواب المحكمة ليمارسوا أغلظ أنواع الإرهاب وأقذع ألفاظ الإهانات بأصوات مبحوحة ومرتفعة وليلقى بعض الشعراء المغمورين القصائد التحريضية من قبل غوغاء الشعر الجاهزين في كل وقت والذين امتهنوا المديح أو السباب والشتائم، وبرزت في هذا النوع من التحريض الشاعرة “وفية بنت أبو اقلام”، أما الجواهري فقد قال قصيدة فيها من التحريض أسوأه فقال في قصيدة مطلعها ……
كِلوا الى الغيب ما يأتي به القدرُ واستقبلوا يومكم بالعزم وابتدروا
ثم يصل الذروة في تحريضه فيقول
فضيّق الحبل واشدد من خناقهم فربما كان في إرخائه ضرر
ولا تقل تِرةٌ تبقى حزازتُها فهم على أي حال كنت قد وُتروا
تصوّر الأمر معكوسا وخذ مثلا مما يجرونه لو انهم نُصروا
والله لاقتيد “زيدٌ” باسم “زائدة” ولاصطلى “عامر” والمبتغى “عمر”
ولكن شكيمة قادة البعث من الخط الأول والثاني والثالث، مثل خالد علي الصالح وإياد سعيد ثابت وشقيقته المناضلة يسرى سعيد ثابت وسليم عيسى الزئبق والمواطن السوري البعثي الذي كان يتلقى العلوم في بغداد حميد مرعي، وحتى علي حسون الرجل البسيط كان عنوانا للشموخ في المحكمة، وأذكر واحدة من أكثر فصول المحاكمة إثارة، أن السيد سليم عيسى الزئبق تحدث بشجاعة ووجه كلمات نابية للمهداوي بسبب التعذيب الذي تعرض له المتهمون، فقال له المهداوي تحدث باحترام انت “مو بالطهارة” أي لستَ بالمراحيض، فما كان من الزئبق إلا أن يصرخ بقوة ويرد على المهداوي “بل أنجس”، بعدها غاب الزئبق عدة جلسات، نعم هذه الشجاعة الفريدة مع طرح ناضج وفكر مبدع تحولت المحاكمة إلى ندوة جماهيرية للتبشير بفكر الحزب أو معهد لنشره، فعلا تدافع كل مبغض للفكر الشيوعي والشعوبي ولأسلوب عبد الكريم قاسم في إدارة الحكم نحو البعث، بسبب فروسية رجاله وشجاعتهم واستعدادهم للتضحية بأنفسهم دفاعا عن مبادئهم.
مرت سنوات الدراسة المتوسطة الثلاث وسط هذه الأجواء صعودا ونزولاً، ثم انتقلت بعد اجتيازي لها إلى الاعدادية المركزية للبنين الكائنة على مقربة من محكمة المهداوي ونادي الضباط والبوابة الجانبية لوزارة الدفاع، ولكن ذهبت إلى الفرع العلمي على غير رغبتي، فقد أراد عمي شامل أن أذهب إلى كلية الصيدلة كي أفتتح صيدلية تحت عيادته الكائنة في شارع النصر على مقربة من جسر الشهداء في كرخ بغداد الحبيبة، وهنا كانت مرحلة التحول الكبرى في حياتي السياسية والاجتماعية والعاطفية، ففي ثاني سنة أي نهاية عام 1962 بدأ أشهر اضراب طلابي في تاريخ العراق، وكان من الممهدات لثورة 8 شباط 1963، في يوم من الأيام طلبني مسؤولي الحزبي في التنظيم الطلابي وقال لقد وقع عليك الاختيار لتلقي البيانات الحزبية وبيانات الاتحاد الوطني لطلبة العراق حول الاضراب، أو لتقف وتحرض الطلبة على مواصلة الاضراب، كان علي أن أقف على مرتفع في كل يوم أمام الطلبة وألقي البيانات أو أحرض الطلبة في خطب غير مكتوبة في مواجهة خطر الطلبة الشيوعيين وأنصارهم، أو لامتلاك الشجاعة الأدبية الكافية للوقوف أمام الطلبة لإلقاء كلمة ارتجالية يجب أن أحافظ على قوة المعاني وسلامة اللغة، وأخيرا في مواجهة إدارة حازمة كان المدير فيها السيد حسن العجيل قبل أن ينقل لدائرة التفتيش الثانوي ويأتينا الأستاذ أحمد معروف مديرا من بعده، وبعد أن فشلت كل محاولات وقف الاضراب جاء الاستاذ حسن العجيل فالقي في الطلبة كلمة نارية هاجمني شخصيا وقال لهم “خلي يفيدكم نزار السامرائي” بعد ذلك تغيرت الإدارة وجاءنا مدير جديد هو عبد العزيز السامرائي، وتم احتلال المدرسة من قبل الانضباط العسكري وجلس في غرفة الإدارة عدد من ضباط الجيش، وبدأت امتحانات نصف السنة، وعاشت المدرسة جوا إرهابيا تسلطيا، حضرنا لتأدية الامتحان وجاءتنا الأوامر الحزبية بألقاء قناني زجاجية تحتوى على رائحة كريهة ويخرج منها غاز مسيل للدموع بعد أن تتحطم نتيجة اصطدامها بالأرض، ومن يتمكن من الوقوف أمام العسكر المنتشر في الصفوف، عليه بتمزيق دفتره الامتحاني ومغادرة القاعة مع احتمال مواجهة رد فعل حاد من قبل الإدارة العسكرية، كنت أحمل معي سكينا للدفاع عن نفسي في ظروف المواجهات ولكنها أصبحت الآن عبئا عليّ لأنني لا أحتاجها، كان ابن عمتي الوفي والعزيز سالم عبد اللطيف سالم السامرائي، أعطيته السكين سألني لماذا؟ قلت سأعتقل ولا أريد أن أسلم نفسي مع مُبرَزٍ يمكن أن يستخدم ضدي، تسلمها من دون تردد أو خوف وتمنى لي السلامة.
مزقت الدفتر علانية بعد أن وقفت أمام الصف والمراقبين والعسكري فقلت هذه امتحانات باطلة لسلطة جائرة، جاءني ثلاثة جنود انضباط واقتادوني أمام ضابط برتبة رائد وكان يجلس معه عبد العزيز السامرائي وبدءا التحقيق معي اسمك وفي أي صف، ولماذا تتمرد على سلطة الزعيم الأوحد لماذا ولماذا أخرى، قلت “أريد انتخابات طلابية حرة ووقف تدخل الشيوعيين في المدارس”، لم يعجبهما كلامي، فنادى الضابط على ضابط أصغر رتبة منه وقال خذه مع ربعه، اقتادونا وسط حماية مشدد ودخلنا بعد خطوات في البوابة الجانبية لوزارة الدفاع، وهناك التقانا العقيد أو العميد عبد الكريم الجدة آمر الانضباط العسكري في قاعة وكان عددنا يزيد على المئات، وألقى بنا كلمة بذيئة شتمنا فيها وشتم حزب البعث وشتم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، تم توقيفي حتى المساء وتم إطلاق سراحنا نتيجة توسطات الأقارب، عندما عدت إلى بيتنا في كرادة مريم قوبلت بحملة تعنيف من أعمامي كادت أن تصل إلى حد استخدام القوة على الرغم من أن أعمامي معارضون لسياسة عبد الكريم قاسم، ثم حصل التغيير يوم 8 شباط وبعد يومين من التغيير وصلني في البريد قرار فصلي نهائيا من الدراسة وعدم تزويدي بشهادة نقل إمعانا بإيذائي، ولكن المجلس الوطني لقيادة الثورة عالج الأمر بعد حصول التغيير، حمدت الله أن قرار فصلي لم يصلني قبل قيام ثورة رمضان، وإلا لكان التوبيخ مضاعفا.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى