يُنظر لعلم التاريخ بأنّه كنز وخزينة الحوادث والأخبار والعقول والأفكار للأمم والشعوب، وهو المُعلّم القديم الجديد الذي ينشر الحكمة، ويمنح الدروس والعبر للساعين لبناء الكون وخدمة الإنسان!
وتأتي أهمّيّة قراءة التاريخ كونها تتقصّى وتستنبط الدروس السياسيّة والإنسانيّة، وتتجاوز أسباب فشل التجارب الأخرى ونقاط ضعفها، والابتعاد عن المنزلقات القاتلة والخطيرة؛ ولتؤطّر بذلك الحياة الإنسانيّة بالحكمة، وحبّ الأرض وعمارتها!
وتفتخر الأمم الواعية بتاريخها، وبالذات حينما يكون مليئا بالملاحم وصور النضال والتحدي والبطولات المُسطّرة في الدفاع عن الوطن بوجه القوى الشرّيرة، الداخليّة والخارجيّة.
وحينما يُكتب التاريخ بنقاء وصدق، بعيدا عن المتملّقين والمزوّرين والمزيّفين، سيكون بذلك المرآة الصافية الناقلة لتجارب الشعوب في كلّ زمان ومكان، والمصباح الذي يُنير طريق البشريّة للاستفادة من تجارب الآخرين، وتجاوز مواطن الخلل والخطأ التي وقعوا فيها!
وكتابة التاريخ بحاجة لمؤرّخين وباحثين وإعلاميّين ونُخَب فكريّة لا يقدّمون شهوة المال على الحقيقة، ويمتلكون القدرة على تناول الأحداث والأشخاص والأفكار بحياديّة ونقاء وذلك لأنّ التاريخ الذي يُزوّر ويُكتب بمزاجيّة يُعدّ أداة خطيرة لضرب كيان الإنسان والدولة، وليس فقط محاولة لتزوير حادثة تاريخيّة مُعيّنة!
ومنذ الساعات الأولى للاحتلال الأمريكيّ للعراق بدأت معضلة تزوير التاريخ، حيث سُميّ الاحتلال تحريرا، والمقاومة إرهابا، وصارت جريمة حلّ الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة والإعلاميّة وتخريبها (خطوة لبناء الدولة)، وهكذا الكثير من الفعّاليات والمفاهيم انقلبت لتضرب صميم كيان الدولة والفكر الإنسانيّ، وكأنّنا أمام مرحلة نُكوص على جميع الحقائق والأعراف والقوانين الإنسانيّة الصافية!
وقد دخل التزوير في مؤسّسات العراق المدنيّة، والعسكريّة، والميادين السياسيّة والعلميّة والفكريّة والدينيّة والإنسانيّة، ومنها الرتب العسكريّة الوهميّة، والكفاح المزوّر ضدّ النظام السابق، والدرجات العلميّة غير الحقيقيّة، وقد لاحظنا أنّ بعض (السياسيّين والمثقّفين والصحفيّين والإعلاميّين) يَتباهون بصفات ودرجات (علميّة ومهنيّة) وهميّة، وهذا جزء من عموم كارثة التزوير للواقع والتاريخ العراقيّ بعد العام 2003!
وكنّا قبل عدّة أيّام في جلسة نقاشيّة مع بعض الذين يمثّلون طرفا مشاركا في العمليّة السياسيّة، وقد أصرّوا على أنّهم قاوموا الاحتلال الأمريكيّ، وأنّهم كبّدوا المحتل آلاف الضحايا، بينما الوقائع القريبة لا تُثبت تلك (المقاومة المزيّفة)!
والحقّ أنّ هذا التزوير لن يزيدهم إلا هشاشة لكياناتهم وشخوصهم!
يمكن القول إنّ فتنة التناحر الفكريّ والعقائديّ التي وقعت بين القوى (الدينيّة والسياسيّة الشيعيّة) الحاكمة مع جماعة المرجع (الشيعيّ) محمود الصرخي قبل خمسة أيّام، والذين اعتقل منهم العشرات، وسوّيت بعض مقرّاتهم وجوامعهم بالأرض بسبب دعوة أحد خطباء الصرخي “لهدم القبور والمراقد الدينيّة”، هذه المناوشات تدخل ضمن سياسة التزوير الدينيّ السياسيّ
وتسعى جماعات (تزوير النضال الوطنيّ) لقلب التاريخ، وتسقيط الخصوم، ولتلميع صورة المخرّبين والمتلاعبين بالوطن، وخداع الجماهير وفقا لقاعدة (اكذب، ثمّ اكذب حتّى يُصدّقك الناس)!
وهنالك منذ عدّة سنوات جهود سياسيّة حثيثة لتزوير واقع البلاد العامّ والحديث عن استتباب للأمن، وتوفّر الخدمات والدعم الصحّيّ، والإصلاح ومحاربة الفقر والبطالة، وتأمين الأمن الغذائيّ والمجتمعيّ والقانونيّ، والمعتقلات النموذجيّة، وضمان حرّيّة التعبير وتقبّل الآخر، والإعمار وتعويض المهجّرين والمتضرّرين وغيرها من الادّعاءات غير الحقيقيّة، القاسية والمؤلمة، والتي يحاولون قلبها وتزويرها، مع كونها أرهقت الناس؛ وحوّلت حياتهم لبؤس وشقاء وتعاسة لا يمكن وصفها إلا مِمَن يُعايشونها ويُجرّبونها لأنّها من الأمور الذوقيّة البعيدة عن التشخيص!
ويمكن القول إنّ فتنة التناحر الفكريّ والعقائديّ التي وقعت بين القوى (الدينيّة والسياسيّة الشيعيّة) الحاكمة مع جماعة المرجع (الشيعيّ) محمود الصرخي قبل خمسة أيّام، والذين اعتقل منهم العشرات، وسوّيت بعض مقرّاتهم وجوامعهم بالأرض بسبب دعوة أحد خطباء الصرخي “لهدم القبور والمراقد الدينيّة”، هذه المناوشات تدخل ضمن سياسة التزوير الدينيّ السياسيّ، والتي يُراد منها استخدام المذهبيّة الدينيّة لتحويل الأضواء وبوصلة الجماهير نحو أزمة داخليّة جديدة بعيدا عن الانسداد السياسيّ المستمرّ منذ ستّة أشهر، وهي جزء من سياسة الاجْتِثاث للمخالفين!
وقد (عالجت) قوى الدولة واللادولة هذه الإشكاليّة (الدينيّة والفكريّة) بالتصعيد الإعلاميّ، والهدم والتحشيد الشعبيّ غير المُنضبط، والعقاب الجماعيّ غير القانونيّ، وذلك لا يتّفق مع منطق إدارة الأزمات!
إنّ الحديث الزائف عن بناء الدولة والأمن وحرّيّة التعبير جزء من مخطّطات نشر اليأس والقنوط في المجتمع؛ وبالتالي الاستسلام للقوى المالكة للسلاح وبقاء تحكّمها بالدولة وقراراتها، وأيضا ضمان صمت المجتمع الضعيف الراكض وراء لقمة العيش والأمان!
وتعتبر محاولات تبديل التاريخ وتزويره جناية ضدّ الإنسانيّة لأنّها تتعلّق بخداع الأجيال الحاضرة واللاحقة، وترفع مكانة المخرّبين وتحطّ من قدر البُناة والمصلحين، وهي جريمة لا تقلّ بشاعة عن جرائم الإرهاب التي تقتل الأبرياء، وتهلك الوطن!
لا تُزوّروا التاريخ، وتشوّهوا بذلك الحاضر، والماضي والمستقبل!