ياس خضير البياتي
من ناحية المبدأ ،لسنا ضد الجامعات الخاصة ،فهذا يعني أننا ضد المستقبل ،لأن الحضارة الحديثة قامت اساسا على هذه الجامعات ومراكزها البحثية ،وأنتجت لنا علماء ومفكرون واستراتيجيون كانوا صناع وقادة هذه الحضارة وثوراتها التقنية ، لكننا ضد الجامعات الخاصة التي قامت على الاحتيال العلمي ،وتجارة العلم وتسليعه وتغليب البعد التجاري على البعد التعليمي، لأن الجامعات لا يجب أن تعتبر نفسها خارج إطار المسؤولية، لأن الطلبة وأولياءهم هم الطرف الأساس في المعادلة، والمبدأ الأساس الذي على الجامعات اعتماده، هو الحس بالعدالة والتضامن الاجتماعي، وهذا من الأساسيات التي بنيت عليها مؤسسات التعليم العالي في العالم.
المشكلة في نظري ليست في مبدأ الربحية، إذ ليس هنالك من ضير في فكرة الاستثمار في التعليم وإيجاد مجال للتنافس في القطاع الخاص لتقديم تعليم جامعي أفضل وأيضاً إيجاد فرص للاستثمار والربح المادي المقبول والمشجع لمزيد من الاستثمار في هذا المجال الحيوي، لكن المشكلة في مثل هذه التنافسية والفاعلية الإيجابية أنها تتطلب وجود جهة أو منظومة رقابية متكاملة تقوم بدور توفير الحماية لكل الأطراف، وتعطي الأولوية القصوى للجانب التعليمي والبحثي، وتقوم بمهمة الإشراف والتدقيق على أرباح تلك الجامعات ومقارنتها بالمردود العلمي والبحثي الذي تقدمه. وعلى حد علمي المتواضع لا توجد إلى هذه اللحظة جهة أو منظومة تقوم بهذا الدور المهم في العراق بشكل صارم وجدي.
ومن المؤسف أن تتحول بعض الجامعات الاهلية في العراق الى (دكاكين) علم، يتحول العلم فيها الى سلعة تباع بأثمان مادية، لقاء علم مجتزئ، وأفكار تقليدية نمطية لا حياة فيها للعصر الجديد، حيث التلقين امتيازا، والابتكار مفقودا، والمال الكثير مقابل الفقر العلمي الكبير، فلا تشعر انك بمؤسسة جامعية، بل محلات أشبه ب(سوبر ماركت) تبيع كل شيء : سلع علمية فاسدة، وبرامج منتهية الصلاحية ، وشهادات لا علاقة لها بسوق العمل . بل أنها مراكز للتدريب على تنشيط العقل على فنون الغش العلمي، والعلاقات العامة المشبوهة. بل أن سوق هذه الجامعات يمتلئ بما هو أفسد، وأخطر، حين يتحول الاستاذ الجامعي أجبارا الى بائع علم فاسد، ومحتال خارج تغطية الضمير الانساني والتربوي، يضطر السكوت فيها عن ممارسات الطلبة السلبية، وأفعالهم الشنيعة، في مجال الغش والامتحانات وتسريب اسئلة الامتحانات، وأحيانا بيعها، ضمن صفقات مشتركة بين الاستاذ وادارة الجامعة. وقد شكا لي أحد الأصدقاء انه ابنه تخرج من بعض الكليات العلمية الهندسية، وهو لا يجيد ان يكتب تخصصه باللغة الإنكليزية، وان الكثير من الشركات ترفضه لأنه لا يجيد ابجديات تخصصه، وبعضها شككت بشهادته، وقد لخص وضع ابنه اثناء الدراسة بأن الكلية تتسامح في الغياب والغش وتقديم الرشاوى للأستاذة الا في دفع القسط المالي! بل أردف القول ان ابنته في الجامعة الحكومية هي الأخرى تعاني من نفس المشكلات، وهو يرى ان التعليم في العراق أصبح مريضا في غرفة الإنعاش! وأننا امام أزمة خطيرة تتجسد في ان المواطن العراقي يدفع المال الكثير للتعليم لقاء علم التجهيل والتضليل والاستغباء! ما هو أخطر اليوم، أن الجامعات العراقية الخاصة بدأت تتسابق في طرح برامج الماجستير والدكتوراه، وهي مصيبة أكبر واعقد، لا يمكن تصديقها حتى في الخيال، فاذا كنا نسجل كل هذه السلبيات على بعض الجامعات الخاصة على برنامج البكالوريوس، فكيف تستقيم الامور بالدراسات العليا، وهو أمر لا يمكن التساهل به مع الجامعات التي تتهاون في صناعة هذه الشهادات الفاسدة، وهندسة الجهل!
أنظروا كيف حول التعليم سنغافورة من بلد المستنقعات والبعوض الى بلد الموانئ الكبرى والمراكز المالية، واقوى اقتصادات العالم نموا، ومارد اقتصادي عملاق، ومجتمع صناعي فائق، بينما تعليمنا تراجع للخلف لينتج لنا مستنقعات وعشوائيات ومزابل بأنواعها، وتناسليات للطائفية والفقروالفساد. لذلك سنضطر الى دق ناقوس الخطر، وكتابة ما نشيت باللون الأحمر: أيها الوزير الجديد …التعليم العالي في محنة كبيرة، وشباب العراق في خطر، والخوف كل الخوف ان نستمر في انتاج تعليم سوبر متخلف، يطور التخلف ويهندس التجهيل!