عندما رأيت مواكب زوار مرقد موسى الكاظم بتزامن مع انتشار عام لمرض كورونا، مواكب تتقدمها الجمال والخيول والراجلة والنساء اللائي يضربن الصدور بكل ما أوتين من قوة، في تحدٍ لأوامر حكومتهم الشيعية باحترام قرار حظر التجول، قفز إلى ذهني سؤال واحد وواحد فقط متجاوزا أسئلة ذات أهمية كبيرة ولكنني اضطررت لتركها في الوقت الحاضر، هذا السؤال هو:
أهذا هو شعب العراق الذي أذهل العالم بصموده الأسطوري وتحديه لكل الضغوط والعنف الذي مُورس ضده من قبل سلطة فاسدة ومليشيات مرتهنة لإرادة إيرانية، لوقف ثورته التي انطلقت في الأول من تشرين الأول/اكتوبر 2019 رغم حرارة صيف العراق القائظ وبرده القارس؟ ومع ذلك قاوم العراقيون كل الضغوط التي مورست عليهم فقدموا من التضحيات الشيء الكثير.
أهذا هو الشعب الذي عجزت عن إعادته إلى بيته البندقية الروسية والأمريكية والإيرانية والتي تمسك بها أيادِ محسوبةِ على العراق ولكنّها تتحرك بأوامر إيرانية مباشرة، أو فتاوى مراجع دينية منتهية الصلاحية، افترض من أصدرها أن الشعب بكلمة واحدة سيعود إلى بيته متناسيا كل ما طالب به من اقتلاع للاحتلال ومخلفاته، ولكن الفتاوى ظلت تترى من طهران وقم والنجف مع التهديد بالقوة التي تمت ترجمتها فورا إلى فعل ميداني حصد أرواح أكثر من ألف شهيد وأدى إلى جرح 30 ألف مواطن أكثر من خمسة آلاف منهم بدرجة الإعاقة الكاملة.
وأُغرقت تحليلات المهتمين بالشأن العراقي في نوبة تفاؤل عن تحرر العراقيين من إرث الخرافة والتجهيل الذي يعود إلى يوم نشوء الدولة الصفوية عام 1500، لكنّ ما حصل مؤخرا (بزيارة موسى الكاظم) بالطريقة البدائية الموغلة بالتخلف التي تمت بها والتي رفعت خلالها شعارات أن يقوم بها ذاهب للحصول على الشفاء من كل الأمراض، أكد أن الغرسَ الأول أكبر تأثيرا وأرسخ في الضمائر، من كل الثقافات المكتسبة في الكبر مهما تعمقت، وهنا يبرز سؤال جوهري، هل أن الشخص العراقي يحمل في داخله القناعة ونقيضها؟ بل هل أن الشخصية العراقية ثنائية فقط أم هي مركبة ثلاثية ورباعية؟
غالب الظن أن من تابع إصرار العراقيين على تحدي كل الظروف الطبيعية التي رافقت ثورة الأول من تشرين 2019، ورصاص الطغاة المستأجرين، وكيف لم تَلِنْ عريكةُ العراقي الذي خرج وهو ينظر إلى المستقبل الذي يتطلع إليه “على الرغم من أنه أبعد عنه من أبعد المجرات” وكأنه قاب قوسين أو أدنى، كان في خروجه هذا يريد أن يؤكد أولاً أن العراقي الجديد برز على السطح بعد أن نفض عن نفسه كل ما علق بها من وعثاء الطريق وأدران الماضي، وقد تحرر مما أُخضع له من خزعبلات وخرافات ظل أسيراً لها نتيجة ضخ لمئات السنين من سلب الشخصية ومصادرة الإرادة نتيجة لتبعية عمياء للمعمم مهما كانت درجة وعيه، فظلت شخصية الفرد العراقي معلقة بماضِ غابر أملته عصبة من الجهلة والأميين نصبّوا أنفسهم أوصياء على مفاتيح الجنة والنار، وكان العراقي يتلقاها صامتا في البيت في طفولته ومعرفته بما يحيط به من ظواهر، ثم في الشارع والمدرسة والحسينية، وأخيرا في الحوزة لتزرع ثقافة الكراهية والحقد في المجتمع العراقي، وصوّر لهم القيّمون على مراكز التشيّع أن الإمام الغائب يمتلك من الخوارق ما تعجز عنه كل قدرات الإنسان في هذا الزمن أو أي زمن، بل صورت لهم الخرافة أن أئمتهم الراقدين في قبورهم قادرون على تغيير الأقدار وتقديم النجدة لهم في كل ملمة من الملمات، كل هذا كان يتم على مرأى المراجع الكبار وسمعهم، من دون أن يكلف واحد منهم نفسه عناء وقف هذا الفيضان من الخرافات التي راحت تنخر بالتشيع قبل غيره، وكان كل معمم جديد يختلق لنفسه قصصا مما حصل معه مما لم يحصل حتى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتعددت مهارات الكثير من المعممين المبتدئين فحولوا أنفسهم إلى أمهر أطباء الأرض فمنهم من يبصق في إناء ليشفي به المرضى من كل الأدواء والأسقام، ومنهم من تحول من تاجر للحلوى إلى صيدلي يبيع بضاعته باسم الدين بأضعاف سعرها في أكبر خديعة تعرّض لها بسطاء الشيعة وسذجّهم بأن قطعة واحدة من الحلوى كفيلة بشفاء (عشيرة بكاملها)، وعندما رأى أن بضاعة الدجل انطلت على الحضور، راح يطمئنهم بأن هناك كميات كبيرة منها وهي جاهزة للتوزيع عليهم.
الفرد كل فرد نتاج بيئته إلا من امتلك الإرادة والوعي الخارق والقدرة على النفاذ بفكره من أقطار تلك البيئة، ولكن العراقي وبعد كل التضحيات التي قدّمها فوجئ بأنه يرى من وقف معه في ساحة التحرير أو ساحات التحدي في المحافظات الأخرى، وقد ارتدّ إلى جاهليته الجهلاء وضلالته العمياء، ويرى أن كل الوعود التي أعطيت له بأن مستقبله مرتهن بوصول قائد شيعي إلى دفة السلطة حتى ولو جاء ذلك على تراب الدبابة الأمريكية، أو كان ثمنه دمار بلده بتواطؤ خبيث بين دولة تنتحل اسم علي بن أبي طالب في إيران، وبين تحالف أمريكي أوربي صليبي مع الحركة الصهيونية وتسهيل من أعراب خانوا شرف انتسابهم لأمتهم فرهنوا إرادتهم لذلك التحالف الشرير هو الكفيل ببناء دولة العدل الإلهي، فقبل لنفسه السكوت على كل ما كان يخطط ضد وطنه من قبل قوى ظلت تسطو على وهمه وتصادر طموحاته منذ طفولته.
فحصل التطابق بين قوى كانت مراجع الشيعة في قم وطهران والنجف وتسميهم بأعداء الإسلام لأنهم امبرياليون وصهاينة وكفار، في العداء للعراق، نعم تحول أولئك في لحظة واحدة إلى منقذين وممهدين للدولة الشيعية الجديدة، فلم يتمكن العراقي الذي يتحلى بالحد الأدنى من الوعي، من فهم هذا المأزق السياسي والأخلاقي الذي وضعه فيه قادته الدينيون، وخاصة بعد أن تحالفوا مع أحفاد مغتصبي الخلافة من علي بن أبي طالب من النواصب أي حكام الخليج العربي، الذين حركهم حقد غامض استنادا إلى نزعة بدوية جاهلية سيطرت على عقول مريضة لبعض حكام العرب، ممن كانوا على استعداد لقبول شياطين الإنس والجن تشاركهم قصورهم بل وغرف نومهم، وتتلاعب بمصيرهم والتحكم بإرادتهم، على أن يقبلوا بكلمة عتاب واحدة من صدام حسين الذي أراد لهم الكرامة ولشعوبهم العز والمجد، فحق عليهم قول الله تعالى (وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
أرجع إلى زيارة الكاظم وأسأل من هي الجهة التي تقف وراءها؟
لا مصلحة لأحد في تحريك البسطاء والسذج من الناس في هذا الظرف الذي أكدت الحاضنة التي افترضتها الكتل السياسية الشيعية أنها محسومة الولاء لها، أنها بدأت تتململ وتكفر بكل ما قدمته لها العملية السياسية على مدار سبعة عشر عاما من وعود كاذبة وتجهيل متعمد وإفقار مقصود، فانتفضت مطالبة بحقوق تم استلابها من قبل أطراف شيعية راحت تكتنز المال الحرام وتواصل السطو على أموال الدولة من دون ضمير أو رادع أخلاقي أو ديني بعد أن عطلت القوانين وسخرتها لتكون مظلة لكل ممارساتها الشائنة، خرج هؤلاء في زيارة لمرقد موسى الكاظم وكأنهم يتحدون المجهول على الرغم من كل التحذيرات التي أطلقتها جهات صحية دولية ومحلية، فهل هناك جهة ذات مصلحة في هذه الممارسة إلا الجهة التي كانت الخاسر الأكبر من سقوط قدسية الوهم الذي ظلت تغرسه عمائم لا تشعر بأدنى مسؤولية دينية أو أخلاقية، في أذهان البسطاء من خلال تعطيل عقولهم ومداركهم؟ وفرضت الجهل والأمية عليهم، حتى صار جزء من مكونات الشخصية العراقية المأزومة، فأرادت بتحريك المشاعر المكبوتة والتي تتحرك بمشاعرها لا بعقولها، كل ذلك لا لشيء إلا من أجل أن تثبت أنها أي المؤسسات الدينية المعزولة تاريخيا، ما زالت تمسك بعواطف الناس وتحريك مشاعرهم متى أرادت، وكأنها ترد على تظاهرات العراقيين التي انطلقت في 1/10/2019.
836
تعليق واحد