ابتداءً، فإن الحوار المزمع إجراؤه بين الحكومة العراقية وحكومة الولايات المتحدة الأميركية بشأن المراجعات المطلوبة للعلاقات بين البلدين، والآفاق المستقبلية لهذه العلاقات، هو “حوار”، تم تصنيفه باعتباره حوارا، وجرى إدراجه في الملفات الرسمية كـ”حوار” ولن يتم خلاله استخدام مصطلح “تفاوض” و”مفاوضات” و”فريق تفاوضي”.
السبب ببساطة هو أن العلاقة بين بغداد وواشنطن بحاجة فعلا إلى حوار صريح وبنّاء وعلني بشأن المستقبل، وبما يضمن إضفاء الوضوح اللازم حول علاقة تم اختصارها عبر السنوات بالجانب الأمني، ووجود القوات العسكرية، على ما يكتنف هذا الجانب من أهمية كبيرة.
والتحدي الأول الذي من الضروري أن يتصدر الحوار الاستراتيجي بين البلدين هو أن يتم النظر إلى العلاقة بمدياتها العامة التي تشمل التعاون الاقتصادي والاستثماري والسياسي، وتحديد أطر هذا التعاون وتطويره ليؤسس صداقة وثيقة طويلة الأمد، وليكون العراق بعد هذا الحوار صديقا قويا لواشنطن، بدل أن يكون مساحة نفوذ، أو “صداعا”، أو ساحة تصفية حسابات.
يمكن إلقاء نظرة على اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي وُقّعت بين البلدين عام 2008 ومعاينة ما تضمنته هذه الوثيقة من انفتاح على آمال لم يتحقق الكثير منها للأسف بشأن بناء شراكات بين بغداد وواشنطن في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياحية والتعليمية، وهذه فرصة للقول إن هذا النوع من الشراكات أثبتت على الدوام أنها أكثر فاعلية حتى من الشراكات السياسية والعسكرية في توثيق العلاقات بين شعوب العالم، وعلى وجه الخصوص أنها الميدان الذي نجحت من خلاله دول كانت مصنفة كدول فاشلة عالميا، لتنجح في إحداث قفزات واسعة إلى الأمام.
ستكون الحكومة العراقية أمام اختبار ضمان تنظيم العلاقة العسكرية مع واشنطن، من دون السماح بتعرض الوحدات العسكرية والمدنية الأميركية في العراق إلى هجمات أطراف مسلحة
ومعروف أن العراق يمتلك المؤهلات الاقتصادية والبشرية والثقافية اللازمة لإحداث هذا النوع من القفزات، وأن التجاذبات السياسية الداخلية، ونمط الصراع الإقليمي والدولي الذي دار فوق أراضيه لعقود، كان على الدوام عقبة أمام تقدمه الطبيعي، وأن الفرصة ما زالت متاحة، كما كانت متاحة على الدوام، لمساعدة شعب العراق على النهوض للتصدي لمشروعه الواعد.
كذلك، فإن مساعدة شعب العراق، بدلا عن تقديم الاهتمام والرعاية للقوى والأحزاب الأوليغارشية والمليشياوية التي حكمته، بالطريقة التي حدثت خلال السنوات الماضية، هو الطريق الذي ثبت أنه الوحيد القادر على بناء علاقات صداقة وثيقة قائمة على أساس شعبي صلب، وليس على أساس تفاهمات سياسية هشة، وهذا الأمر يخص طريقة تعاطي جيران العراق وأشقائه وأصدقائه معه بعد هذه المرحلة، كما يخص واشنطن تحديدا.
وفي هذا الصدد يرتبط بشكل أكثر إلحاحا تحدٍ آخر يخص نقطة تمركز العراق ما بعد تشكيل حكومة مصطفى الكاظمي إقليميا ودوليا، ولأن هذه النقطة في غاية الحساسية، ويتم النظر إليها باستمرار على أنها السبب الرئيس باضطراب العراق داخليا، فإن الحوار مع واشنطن من شأنه رفع الالتباس بشأن علاقات العراق الخارجية، وحقيقة تطبيق العراق لسياسة التوازن في تلك العلاقات.
والحقيقة أن المدخل الوحيد لضمان استعادة العراق لوزنه الإقليمي التاريخي، وشغل مساحته الطبيعية بين دول المنطقة والعالم، هو التوازن في علاقاته، والمصداقية في تنفيذ هذا التوازن.
واشنطن ومعها كل دول التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”، إذا ما امتلكت الإرادة الكافية لمساعدة العراق على استعادة مساحته الإقليمية والدولية، فإنها تضمن على المدى البعيد استقرارا حقيقيا في الشرق الأوسط، بل أننا نزعم أن غياب الوزن العراقي، هو الذي سمح بانفجار مشهد الشرق الأوسط إلى نظام المحاور الحالي، وهو الذي سمح باستشراء الحركات العنيفة والإرهابية والمليشياوية كنتاج مباشر أو نتيجة غير مباشرة لهذا الصراع.
أن تكون الزيارة الأولى الخارجية لوفد عراقي رفيع المستوى من حكومة السيد مصطفى الكاظمي إلى المملكة العربية السعودية، فإنه أمر يحمل دوافع تتجاوز الأزمة المالية العراقية الحالية، فالعراق يحاول أن يقول إن علاقاته الخارجية تتأسس على قاعدة التوازن والمصالح والتعاون وليس الانحياز والانقياد، وإنه في الوقت الذي لن تسمح له كرامته التاريخية بأن تصنف أية دولة جارة أو صديقة نفسها كراعية له، لن يكون أداة تهديد لمصالح دول المنطقة، ولن يكون منطلق اعتداء، وإن لأشقائه العرب بعدا استراتيجيا في علاقاته المستقبلية كما لجيرانه الإيرانيين والأتراك من بعد استراتيجي في هذا المستقبل.
ومع كل ذلك، فإن الحديث عن وجود القوات الأميركية القتالية في العراق يكتسب أهمية ذات طابع دعائي أكثر منه واقعيا، والواقع أن واشنطن حسب تأكيداتها ليست متحمسة لإبقاء أية قوة عسكرية في العراق، وأنها بدأت بالفعل منذ شهور تنفيذ انسحابات من معسكرات عراقية، بل وأهدت معدات وأسلحة للجيش العراقي وقوات مكافحة الإرهاب تصل قيمتها إلى نحو 80 مليون دولار، كانت موجودة في تلك المعسكرات، والأهم من كل ذلك أن العراق ما زال بحاجة إلى دعم عسكري أميركي يتجاوز التسليح إلى التدريب والتعاون الاستخباري.
مساعدة شعب العراق، بدلا عن تقديم الاهتمام والرعاية للقوى والأحزاب الأوليغارشية والمليشياوية التي حكمته، هو الطريق الوحيد القادر على بناء علاقات صداقة وثيقة قائمة على أساس شعبي صلب
إن تنظيم علاقة التعاون العسكرية بين بغداد وواشنطن، على أساس الحوار الاستراتيجي، متوقع أن يفضي إلى جداول زمنية موضوعية لانسحاب القوات القتالية تأخذ في الاعتبار استمرار مخاطر تنظيم “داعش”، وإعادة توصيف لمهمات التدريب والتأهيل للقوى المسلحة حسب الأولويات والاحتياجات والظروف الحالية.
ستكون الحكومة العراقية أمام اختبار ضمان تنظيم العلاقة العسكرية مع واشنطن، من دون السماح بتعرض الوحدات العسكرية والمدنية الأميركية في العراق إلى هجمات أطراف مسلحة، ومن دون السماح باستخدام الأراضي العراقية لعمليات عسكرية أميركية ضد الجيران أو ضد أطراف عراقية بلا موافقة بغداد.
وفي الوقت الذي يجب أن تسعى فيه الحكومة لتوفير الدعم السياسي الكامل داخليا لمساعي تنظيم هذه العلاقة، فإن على القوى السياسية العراقية أن تخرج من حالة اللاموقف تجاه العلاقة مع واشنطن، وهي الحالة التي تسببت بكل هذا التشويش طوال السنوات الماضية. فالالتزام الحكومي ملزِمٌ لكل القوى والأطراف العراقية، سواء عارضت أو أيّدت، وهذه القاعدة القانونية يجب أن تحكم مواقف القوى السياسية التي يفضل بعضها إبقاء الوضع عائما استجابة لأولويات غير عراقية.
إن التحديات التي يفرضها تنظيم وضع التعاون العسكري بين بغداد وواشنطن، سيدخل في امتحانات ثقة بين الجانبين، ما يتطلب المزيد من الانفتاح على حوارات أكثر عمقا مع كل الأطراف المتداخلة في الوضع العراقي، وفي مقدمتها إيران، الجار التاريخي الذي التبست العلاقة معه خلال السنوات الأخيرة، وبات ضروريا أن يكون ثمة حوار بناء لصالح الشعبين الجارين، يستند إلى قواعد التعاون الأخوي المثمر في كل المجالات، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ورفض سياسة المحاور.