كان ملك المملكة العربية السعودية إذا زار المنطقة الشرقية في المملكة، يأتيه مشايخ وأمراء منطقة الخليج العربي للسلام عليه تعبيرا عن المكانة الأبوية للمملكة على سائر أولئك المشايخ والأمراء، كان ذلك فعل إرادي ينطلق من رغبة ذاتية لا ضغط فيه لا من السعودية ولا من أية جهة خارجية أخرى.
كان ذلك زمن انطوى بفعل المتغيرات التي شهدتها منطقة الخليج العربي في مراحل مختلفة، وما رافق مساعي تشكيل دولة الإمارات العربية بعد إعلان بريطانيا نيتها الانسحاب من شرق السويس عام 1971، وبروز اختلافات جدّية ومعارضة حازمة من جانب البحرين وقطر في رفض خطة قيام دولة الإمارات العربية، بسبب نزعة قبلية عميقة ومعروفة في المنطقة، ومنذ نشوء كيانات سياسية جديدة بدأت تطفو على السطح خلافات متعددة الأسباب والدوافع، منها ما يتعلق بالثروة النفطية والغازية، ومنها ما يرتبط بالحدود ومنها ما يتعلق بعائدية بعض الجزر الصغيرة وخاصة بين البحرين المحدودة المساحة وقطر، لاسيما جزر حوار وفشت الديبل، ولعل التصريح الذي أدلى به الأمير سعود الفيصل وزير خارجية السعودية أثناء قيامه بالوساطة بين الطرفين من أن الحل يكمن في اسم الجزر المتنازع عليها، أي الحوار، يجسد رؤية واضحة وناضجة للحل وأن السعودية تميل إلى لغة الحل السياسي لأطراف المنطقة، لكن السعودية على ما يبدو كانت أكثر ميلا إلى البحرين منها إلى قطر على الأقل من الناحية العاطفية وربما يرتبط الأمر بضعف موارد البحرين ووجود النفط والغاز في منطقة الصراع، هذا غير النزاع على واحة البريمي بين عمان والإمارات والسعودية والذي أضاف إلى هذا الخزين من المشاكل النائمة.
فقد وقف السعوديون بكل قوة إلى جانب الملكيين في اليمن بعد انقلاب الرئيس عبد الله السلال عام 1962، وأثر دخول مصر بثقل عسكري كبير إلى جانب الجمهوريين على فرص مواجهتها للكيان الصهيوني مما أدى إلى نكبة الخامس من حزيران 1967، فضلا عن الخسائر الهائلة التي تكبدتها مصر في الأرواح من خيرة قواتها الخاصة والكثير من أسلحتها الحديثة، كما أن السعودية خسرت الكثير من الأموال لدعم الأمير محمد البدر الذي نَصّب نفسه ملكاً خلفاً لأبيه الإمام أحمد، ويبدو أن هدف السعودية من موقفها في دعم الملكيين ثلاثي الأبعاد، فهي من جهة تريد تكريس نظام الحكم الملكي على حدودها الجنوبية، و تريد استبعاد نظام عبد الناصر الذي كان يوصف بأنه نظام ثوري يشكل خطراً على الجزيرة العربية كلها، وأخيراً للحفاظ على الأقاليم التي يرى بعض اليمنيين أنها سلبت منهم بالقوة، مثل عسير وغيره.
ومن مفارقة المشهد السابق واصطفاف السعودية مع الملكيين في اليمن، أنها تدعم الآن الجمهوريين في مواجهة أحفاد الإمامة السابقين التي بذلت الرياض جهوداً مستميتة لنصرتهم في الماضي وإلحاق الهزيمة بالمشروع الناصري القومي.
واليوم تطفو على السطح كل الملفات الخلافية القديمة بوجه المملكة العربية السعودية، وكأنها تريد استدراجها إلى استنزاف عسكري وبشري ومالي في معضلة لا تلوح في الأفق بارقة أمل بانتهائها.
إن من الخطأ المميت أن بلدا يعيش أزمة كبيرة مثل الأزمة اليمنية وتستغرق كل وقته وجهده، ودخل في عملية عاصفة الحزم بذلك الثقل الاستثنائي ليوقف التآمر الحوثي على اليمن وعروبته والمرتبط بالمشروع الإيراني التوسعي العدواني، أن يُستدرج إلى أزمات أخرى أيا كانت وجهتها أو حجمها، قطعاً للمملكة حساباتها الخاصة في حالة الخلاف مع تركيا ومع قطر، ولكن هل هذا هو الوقت المناسب للاختلاف مع تركيا بحيث تتراصف مع دول مسيحية كأرمينيا واليونان ضد تركيا الدولة الصاعدة سياسيا وعسكريا واقتصاديا؟ مما يستدعي كسبها أو على الأقل تحييدها، وما هي علاقة السعودية بالنظام الداخلي الذي اختارته تركيا لنفسها عبر الانتخابات الحرة؟ ولا تتوقف عند الموقف الدبلوماسي بل تحشد عبر إعلامها المباشر وغير المباشر جهداً استثنائياً بالدخول في حرب إعلامية مفتوحة لا يمكن أن تؤدي إلى كسب معركة سياسية بقدر ما تشحن القلوب بالكراهية والبغضاء بين الشعوب وليس الحكومات فقط.
في تقدير الخبراء المهتمين بشؤون الشرق الأوسط أن من يخوض معركة سياسية ومصيرية من طراز المعركة التي تخوضها السعودية ضد إيران وينوب عنها الحوثيون وحزب الله اللبناني، هي من طراز المعارك المصيرية الكبرى، يجب أن تحشد من أجل كسبها كل طاقاتها الوطنية وتقيم تحالفات وصداقات مع كل طرف محايد بما فيها الدول التي تعيش معها أزمات صامتة، وعليها تأجيل البحث فيها بأي شكل من الأشكال لأن مجرد البحث في أسبابها ومآلاتها سيؤدي إلى مزيد من التأزم بدلا من تقريب وجهات النظر.
الآن يرتفع في كل من مصر والإمارات العربية والمملكة العربية السعودية شعار التصدي لجماعة الإخوان المسلمين، هنا عليّ أن أثبّت عدة نقاط مركزية في هذا الملف.
1 – مصر شاءت السعودية أم أبت خارج معادلة الحرب ضد إيران بصورة مباشرة حتى إذا كانت داخل الصراع القومي ضدها فقد اكتفت بشعار أمن الخليج أمننا ونحن جاهزون مسافة السكة، إلا أنها لا تتحمل كثيرا من تبعات الحرب أو تكاليفها المادية والبشرية والعسكرية، فإذا كانت لمصر معركتها مع الإخوان المسلمين، فهذا لا يستدعي أن تضع السعودية كل جهدها السياسي والدبلوماسي في هذه المعركة، نعم هناك تعاطف في وجهات نظر مشتركة تجاه ملف الإخوان، ولكن هذا لا يستدعي من الرياض أن تلتفت لحظة واحدة عن معركتها الحقيقية، لأنها ستشتت جهدها من جهة وتضيف إلى قائمة أعدائها طرفا يمكن تأجيل المعركة معه إلى وقت آخر.
2 – هل عرفت السعودية الآن فقط الطابع الإرهابي لجماعة الإخوان المسلمين وهي حركة تأسست منذ عام 1928؟ وكان عليها أن تكتشف هذه الحقيقة بما لديها من مؤسسات دولة مستقرة منذ 1932 وحتى اليوم؟ أين أجهزتها الأمنية وأين وزارة الخارجية فيها وأين مراكز دراساتها؟
لست في معرض الحديث عن الإخوان المسلمين فحديث ينطلق من موقف قومي واضح، ولكنني أجزم أنهم عملاء لإيران أو أصدقاء لها في أحسن الأحوال، ربما باستثناء التنظيم السوري، وقد اعترف قياديو الحزب الإسلامي في العراق وهو النسخة المحسنة الاسم لا المضمون للجماعة في لقاءات مباشرة على الفضائيات بأنهم يحتفظون بعلاقات متميزة مع إيران بل ويفاخرون بها على رؤوس الأشهاد.
ثم إن السعودية استضافت اخوان مصر لديها بعد أزمتها مع عبد الناصر ووظفتهم في حربها السياسية والإعلامية ضد نظامه، وفتحت لهم أبواب الجامعات للتدريس فيها والوظائف في مؤسسات الدولة وأتاحت لهم نشر فكرهم من دون حرج أو قيد، ألم تكتشف من خلال وجودهم الطويل فوق أراضيها أنهم إرهابيون أو مسالمون؟ ثم إن السعودية تعرف أن الإخوان هم الذين حاولوا اغتيال عبد الناصر عام 1954 وهي الحادثة المعروفة بحادثة المنشية؟ ألا تعد هذه الحادثة شهادة واضحة على طابعهم الإرهابي؟ أم لأن العملية كانت تستهدف عدوا مشتركا هو عبد الناصر سكتت عنها؟
3 – لا أدري ما هي دوافع الإعلام السعودي وخاصة قناة العربية وأخواتها، من المشاركة في كل جهد سياسي ضد تركيا حتى من دون أن تتفكر من هو المنتفع ومن هو المتضرر؟ وما هو مكسب السعودية من فتح جبهة مواجهة ضد تركيا في حين أن المطلوب هو أن تبذل جهودا من أجل سحب تركيا من حلف المصلحة المؤقتة مع إيران؟
4 – ما يتعلق بتركيا يتعلق بدرجة أو بأخرى مع قطر، وإن كانت هناك ملفات ثنائية مع الدوحة، تتعلق بالحدود وتتعلق بالتبدلات الدراماتيكية التي أدت إلى عزل أمير قطر الأسبق أي جد الأمير الحالي تميم، وامتعاض السعودية من ذلك التغيير، ولكن هل يجب أن تبقى امتدادات ذلك الحدث وبصرف النظر عن الوصف الذي يُطلق عليه، باقية تشدّ أعصاب الحكام إلى الأبد وتثير المزيد من الأزمات المتناسلة والتي قد تدفع قطر إلى تحالفات ملتبسة ربما تكون مفروضة عليها من قبيل علاقاتها التي لا تستند على أساس منطقي من التفاهم بين نظامين متصادمين، إلا لمجرد إزعاج السعودية ووضع الحجارة في طريق حربها في اليمن؟ هل فكر أحد الحكماء في منطقة الخليج العربي عن أسباب الرغبة المتنامية عند قطر لمجرد إزعاج السعودية في لعبة صبيانية فيها من المراهقة أكثر ما فيها من الحكمة؟
إن المملكة العربية السعودية انجرّت مرغمة إلى معركة عاصفة الحزم دفاعا عن نفسها بوجه مشروع التوسع الإيراني العدواني استنادا إلى ما يسمى بولاية الفقيه، بما يجعل من إيران على حدود السعودية الجنوبية مع تأكيدات حوثية بأن هدفهم ليس صنعاء وإنما مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولكن علينا أن نعترف أن السعودية وبدلا من أن تتفرغ لكسب هذه المعركة، فتحت لنفسها معارك جانبية ما كان لها أن تفتحها حتى وإن فُرضت عليها، لأن ذلك الهدف يبقى قائما ومحتملا كجزء من مجهود معادٍ لها تقوده قوى حاقدة على العرب، وهذا ما لمسناه بصورة واضحة عندما كان الحسم يقترب من نهايته المطلوبة، إذ تدخل الأمم المتحدة أو بريطانيا عن طريق دور مشبوه لممثلي الأمين العام للأمم المتحدة الذين أكدوا على الدوام ضلوعهم في مشروع إطالة الحرب واستنزاف السعودية، وخاصة السيء غريفت الذي ألقى بقارب النجاة إلى الحوثيين في اتفاقيات السويد الملغومة، وإذا قرأنا المسرح العسكري في معركة الحديدة فسوف نجد أن غريفث هو الذي منع تحرير الحديدة من الحوثيين وأبقاها رهينة بيدهم كي يبقى تدفق السلاح من إيران مضموناً لمليشيا الحوثي، لو أن السعودية أمنّت حسم معركة الحديدة بالسرعة التي كانت متاحة قبل ثلاث سنوات لما كانت الصواريخ البالستية الإيرانية تسقط على المدن السعودية وتهدد استقرارها واقتصادها وحركة الملاحة الدولية.
إن أي تأخير في حسم المعركة يعني مزيداً من النزف السعودي سياسيا ويدخل أطرافا جديدة على خط اللعبة، بحثا عن مصالح اقتصادية أو نكاية بالمملكة العربية السعودية، على السعودية أن تفتح أبوابا كثيرة للحوار مع تركيا حتى لو اضطرت للذهاب إلى هذا الخيار منفردة لا سيما بعد فوز بايدن في انتخابات الولايات المتحدة الرئاسية.
فهل هناك من يتعامل مع هذا الملف بما يقتضيه من حكمة وحسم واقتدار؟ أم أن بعض الأطراف لا يسرها أن يحصل تقارب بين أنقرة والرياض وليس من مصلحتها أن تفعل ذلك، لتدع السعودية طبيعة نظم الحكم في الدول الأخرى وتتعامل معها بمنطق العلاقات الدولية على أساس التكافؤ.
تجربتنا في مواجهة العدوان الإيراني عام 1980 تؤكد أن إيران لن تأتي إلى طريق الطاعة ما لم يكسر عمود إرادتها الفقري
1٬358