الأزمة الروسية الأوكرانية أعادت التكتيك إلى الأذهان
حرب المدن والمناطق الحضرية والشوارع من القتالات الخاصة – صباح نوري العجيلي
{ للمدن قيمة وطنية ورمزية في الحروب بخاصة عواصم الدول
{ الحرب الروسية – الاوكرانية الدائرة حالياً أعادت حرب المدن الى الذاكرة
{ للعواصم رمزية وطنية وعندما تقع بيد العدو تتسبب في فقدان السيطرة في أرجاء البلاد غالباً
{الجيوش تتجنب الاصطدام بالمدن وتذهب الى عزلها وفرض الحصار عليها واستخدام النيران بعيدة المدى
{ وجود السكان المحليين يشكلون معضلة حقيقية للمهاجمين والمدافعين
{الطائرات المسيرة بلا طيار سلاح ملائم لقتال المدن تفيد الاستطلاع والرصد والمراقبة والقتال وتدمير الأهداف
عام
تشكل المدن، خصوصاً عواصم الدول التي فيها مركز القرار السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي، قيمة وطنية ورمزية واهدافاً استراتيجية يتوخى المهاجم إحكام قبضته عليها وفرض شروطه السياسية والعسكرية وتغيير نظام الحكم القائم كما حدث عند احتلال العاصمة بغداد أبان الغزو الأمريكي سنة 2003.
الحرب الروسية – الاوكرانية الدائرة، في الوقت الراهن، تعيد إلى الذاكرة تأريخ حروب المدن الطويل، إذ فشلت القوات الروسية بالسيطرة على العاصمة الأوكرانية (كييف)، وهي مستمرة بمحاولاتها لاحتلال المدن، ماريوبول واوديسا وخاركيف، ذات الأهمية والتي تتعرض إلى قصف منظم وعشوائي بالمدفعية والصواريخ عالية الدقة، والتي تتسبب بوقوع الخسائر المادية والتضحيات البشرية وإجبار المدنيين على النزوح، كما تخوض المليشيات الحوثية في اليمن، حرب المدن، عن بعد، من خلال الاستهداف المتكرر للمدن السعودية والمنشآت النفطية، بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، ضمن إطار الحرب بالنيابة عن نظام طهران. وسبق أن أتبع هذا الأسلوب في الحرب الايرانية – العراقية (1980- 1988) من خلال القصف المتبادل للمدن بالصواريخ نوع (سكود).
توصيف المدن
المدن بيئة حضارية وإنسانية وهي أحد صور التطور الحضاري، ورقعة جغرافية يسكن فيها عدد كبير من الناس وتشكل نسيجاً مجتمعياً، وتحوي على تجمعات سكنية ومراكز حكومية ومعالم مدنية وثقافية وبنى تحتية، وغالباً ما تكون المدن عقد مواصلات مهمة ترتبط بمدن وبلدات وقرى أخرى.
تعرف المدن بأنها مركز سكاني دائم نسبيا وعالي التنظيم وهي أكبر من القرى والقصبات وترتبط بالمجتمعات الحضرية والمدن. وتصنف المدن حسب الموقع والوظيفة والقيمة السياسية والدينية والثقافية، ومنها المدن الادارية والتجارية والصناعية والدينية.ولعواصم الدول رمزية خاصة وقيمة وطنــــــــية عاليـــــــة، يدار منها حكم البلاد وتوجد فيها مقرات السلطة والحكومة والوزارات والمؤسسات العلمية والثقافية والصحية والهـــــــيئات الدبلوماسية الاجنبية، وبالعادة تكـــــــــون أكبر المدن من حـــــــــيث السكان في الدولة وتعد من الاهداف الاستراتيجية عالية الاهمــــــــية التي يتوخاها العدو المهاجم.
حرب المدن
حرب المدن من أقدم الحروب عبر التاريخ، وهي أحد أشكال القتالات الخاصة التي تتطلب استحضارات جيدة واستطلاعات مفصلة وتخطيط مسبق وقوات مدربة وقيادة وسيطرة كفوء، ويمتاز قتال المدن باللامركزية والمرونة ومنح الصلاحيات للآمرين الصغار.
قبضة العدو
وللعواصم والمدن الكبرى لها أهمية خاصة، وعند ما تقع في قبضة العدو المهاجم يكون لها تأثير حاسم على الموقف العام وتداعيات سياسية وعسكرية خطيرة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما تمكنت قوات الغزو الامريكي من دخول العاصمة بغداد في 9 نيسان 2003 ألقت القوات العسكرية في شمال العراق السلاح من دون مقاومة وهي بقوة فيلقين من الجيش العراقي، وغادر الجنود مواقعهم.
تتجنب الجيوش الاصطدام بالمدن والمناطق الحضرية كونها بؤراً للمقاومة الوطنية وتشكل عوارض في مسرح العمليات وتؤثر على تنفيذ النار والمناورة وإدارة العمليات، لذلك يلجأ المهاجم الى عزل المدن وتطويقها وفرض الحصار ويضعها تحت النيران المباشرة وغير المباشرة لإنهاك القوات المدافعة وإضعاف إرادتها على القتال ومن ثم يبدأ بتطهيرها، لاحقاً، حسب الخطة الموضوعة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، تحاشت قوات الغزو الامريكي في 2003 قتال المدن من خلال التقدم مباشرة نحو العاصمة بغداد عبر رتل الصحراء الذي انطلق من الجنوب متجاوزاً المدن الرئيسة ومتجنباً مقاومة القوات والشعب العراقي في المدن والقصبات.
تتحصن المدن وتتحول إلى قلاع حصينة في حالة الدفاع وتصبح عصية على القوات المهاجمة ولكنها بالنهاية ستتعرض للدمار وتصبح ميداناً للرماية تستخدم ضدها أنواع الأسلحة بعيدة المدى.
يستوجب على المدافع إعداد مسرح العمليات للمدينة لكي تزداد مناعتها امام الهجمات المعادية ومنعها من اقتحامها واحتلالها، وبالعادة، يجري تقسيم المدن الى قطاعات، لكل قطاع قيادته وقطعاته وحدود مسؤوليته. وتكون الأسبقية العالية لحماية الأهداف والمواقع الحيوية داخل المدينة، وتستخدم الأسلحة، بصفة مؤثرة، وتنشئ الموانع والحواجز، لفرض التأخير والإعاقة وإيقاع الخسائر بالمهاجم، وينبغي أن تكون غاية المدافع، تحميل المهاجم ثمناً باهضاً عند اقتحام المدينة.
ومن التجربة، أن افضل القوات التي تقاتل في المدن وتحقق نجاحات فيها، هي وحدات القوات الخاصة والمغاوير والمشاة المسندين بالقطعات المدرعة إذ أن لها القدرة والإمكانية على القتال والمناورة، وتلعب القطعات المدرعة دوراً حاسماً في حرب المدن عندما تنعدم المقاومة أو تضعف، كما جرى في عملية احتلال العاصمة بغداد في نيسان 2003.
ولوحدات الدفاع المدني دور حيوي في المدن من خلال إنقاذ المدنيين وإسعافهم وإطفاء الحرائق ومعالجة المقذوفات والقنابل وإدامة الخدمات والبنى التحتية.وتلعب الطائرات المسيرة في العصر الحديث دوراً مهماً في هذا النوع من القتالات، كونها صغيرة الحجم وسهلة الاستخدام ولها القدرة على المناورة والتخفي من رادارات الدفاع الجوي، إذ تكلف المسيرات بمهمات الاستطلاع الجوي والرصد والمراقبة والقتال وتدمير الأهداف وتصحيح نيران المدفعية.وعلى المستوى الوطني، ينبغي أن يخطط بوقت مسبق إلى أن تتحول المدن إلى قاعدة للمقاومة لضرب قوات العدو التي قد تنجح في اختراق المدينة لتكبيدها الخسائر ومنعها من الاستقرار والانتشار.
السكان المحليون
حماية المدنيين واللاجئين والسيطرة على تنقلاتهم وتأمين متطلباتهم الأمنية والمعيشية وإخلاء الجرحى والمصابين، من المهمات التي تقع على عاتق الحكومة والقوات المسلحة وفرق الدفاع المدني، وفي الوقت ذاته على السكان المحليين تقديم المساعدة للقطعات المدافعة في إعداد دفاعات المدينة وتحويل التجمعات السكنية إلى بؤر لمقاومة العدو المهاجم وإيقاع الخسائر به.
بالعادة، وفي الحروب طويلة الأمد، قد يتفق الطرفان المتحاربان على فتح ممرات آمنة للنازحين من السكان المحليين ولدخول منظمات الإغاثة المحلية أو الدولية لغرض تقديم المساعدات الغذائية والطبية للسكان المحاصرين وإخلاء الجرحى.
تعد مدينة الفلوجة، من المدن العراقية الباسلة في سفر مقاومة الاحتلال الأمريكي إذ أصبحت قاعدة لمقاومة الاحتلال، وخاض فيها الرجال معارك شرسة أوقعت الخسائر بين صفوفه لن ينساها، مما أجبر سلطة الاحتلال على استخدام قوات النخبة (المارينز) للهجوم على المدينة وتدمير أحيائها، مستخدمة الأسلحة الفتاكة والفسفور الأبيض والطائرات المقاتلة والسمتية، وبقيت الفلوجة رمزاً من رموز مدن المقاومة الباسلة.
في الجانب الاخر، هناك مدينة الموصل التي سيطر عليها تنظيم داعش في 10 حزيران/ يونيو 2014 لتتحول المدينة إلى مسرح لعمليات قتال بين عناصر التنظيم والقوات العراقية التي كلفت بتطهير المدينة، والتي تتألف من قوات الجيش العراقي وقوات جهاز مكافحة الارهاب والشرطة الاتحادية وبإسناد الطيران الأمريكي ونيران المدفعية والصواريخ، لقد تحولت المدينة طوال ثلاث سنوات إلى ميدان للرماية، خلّف الدمار والخراب الذي طال مرافقها كلها، وتحول قسم كبير من المدنيين إلى لاجئين في المخيمات والمدن المجاورة، وحتى يومنا هذا مازالت الجثث تحت الأنقاض في الجانب الأيمن للمدينة.
الخاتمة:
تبقى المدن ضحية الحروب وأحداثها كونها تشكل أهدافاً استراتيجية وحيوية لا سيما العواصم حيث مركز القرار السياسي ومركز القيادة والسيطرة الرئيس. ينبغي أن تعد خطط للدفاع عن المدن، منذ وقت السلم، وتخصص لها القوات الملائمة، وأن ينظم الدفاع عنها بالنحو الذي يمنع المهاجم من اقتحامها والسيطرة عليها، ويجب أن يكون ثمن الاقتحام باهضاً وأن يدفع العدو الخسائر البشرية والمادية في كل قدم من المدينة وأحيائها وأن يجري قتال العدو من منزل إلى أخر.
للسكان المحليين من أبناء المدينة دور مهم في مقاومة قوات الغزو وتقديم المساعدة للقوات المدافعة عن المدينة، وعليه ينبغي إعداد الشعب للحرب وطنياً وعسكرياً ومعنوياً، منذ السلم لينهض بدوره الوطني في مقاومة الغزاة.عبر التاريخ يشار إلى المدن الباسلة التي تقاوم الغزاة ويخلد ضحاياها الذين سقطوا في الدفاع عنها، وتبقى محط فخر واعتزاز للأجيال المتوارثة.
{ عسكري عراقي برتبة فريق ركن شغل منصب معاون رئيس الأركان سابقاً