حوار استعراضي مدجج بالسلاح

استعراض القوة الذي لم تشهد له مياه الخليج العربي وما جاورها على ساحله العربي مثيلا من قبل، ولم تعرف له المنطقة منذ استحضارات العدوانين الدوليين على العراق الذي قادته الولايات المتحدة عامي 1991 و2003، أدخل المهتمين بشؤون الأمن في المنطقة خصوصا وأمن الطاقة الدولية عموما، في دوامة من حسابات يتساقط بعضها ولتنهض على أشلائها حسابات أخرى ربما متصادمة معها أو على الأقل لا تلتقي معها بأرضية مشتركة بأي قدر من المقادير.
لقد تركت تطورات المواقف المعلنة من قبل المتحدثين الأمريكان انطباعا بأن منطقة الخليج العربي تقف على أبواب جهنم، فالأمريكان لم يتركوا هامشا للمحللين السياسيين والعسكريين للخروج بأي انطباع بأن هناك فرصة للخروج من الأزمة من دون كسر العمود الفقري لإيران، ذلك أن ثرثرة الرئيس الأمريكي المأزوم دونالد ترمب لم تترك فعلا يمكن أن تقدم عليه إيران أو أدواتها المحلية إلا ووضعته على جدول الرد الصاعق والفوري، سواء شمل ذلك الفعل الجنود الأمريكان أو المصالح الأمريكية كالسفارات والمنشآت الاقتصادية الأمريكية، أو تهديد خطوط الملاحة الدولية أو أمن حلفاء الولايات المتحدة.
ولكن القلة من المراقبين العارفين بغاطس الود الغربي لإيران بصرف النظر عن طبيعة نظامها السياسي، ثم التفاهمات الأمريكية الإيرانية السابقة تحت الطاولة في أكثر من أزمة بدت وكأنها قنبلة على وشك الانفجار ثم تبريدها فجأة ووضعها في ثلاجة حتى تخمد تماما، أو العارفين بالمزاج المتقلب للرئيس الأمريكي على نحو لم يشهده البيت الأبيض قبلا، كل ذلك أفقد العالم الشعور بجدية الولايات المتحدة إلى أي خيار، بحيث حال ذلك دون حصول اصطفاف دولي مع واشنطن التي طالما خذلت من يقف معها في لحظة حرجة عندما تذهب (واشنطن) إلى التفاهم من الطرف الذي وُضع على لائحة الاستهداف، ولعل المثال الكوري الشمالي من أبرز أدلة إحراج واشنطن لحلفائها نتيجة رفعها لسقف المواجهة مع بيونغ يانغ في الوقت الذي كانت فيه الاتصالات بين البلدين قد وصلت مرحلة متقدمة من التفاهمات على كثير من الملفات بما فيها لقاء ترمب مع الرئيس الكوري الشمالي كم جونغ أيل، بحيث تم ترتيب اللقاء على مقربة من خط بان من جونغ وهو الخط الفاصل بين شطري كوريا، ولم يتوقف الأمر على هذا اللقاء بل أعقبه بلقاء آخر في سنغافورة في 12 حزيران/يونيو 2018، ولا شك في أن هذه التقلبات في مزاج السياسة الأمريكية التي تعكس المزاج الشخصي غير المستقر للرئيس دونالد ترمب، تترك كثيرا من عدم ثقة المراهنين على ثبات السياسة الأمريكية على توجه واحد، لأن الاصطفاف مع واشنطن قد يورط حلفاء الولايات المتحدة بمواقف هم غنى عنها، هذا ما يحصل تماما في عدم رص تحالف أمريكي مع واشنطن، وخاصة من جانب الاتحاد الأوربي ودول منطقة الخليج العربي التي قد تستعدي إيران نتيجة اصطفافها مع واشنطن ثم ومن دون مقدمات تتخلى عنهم حليفتهم الكبرى لقمة سائغة لعدو إقليمي لا يلتزم بقواعد العلاقات الثنائية أو قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، لا سيما وأن لإيران أذرع قوية تنتشر على طول الساحة الإقليمية وعرضها، بحيث تستطيع إرباك الأوضاع الأمنية في دول المنطقة من دون الحصول على عون أمريكي سريع، ومن دون أن تتحمل إيران الرسمية تبعات في ما يحصل في الدول الأخرى بحكم تقاليدها التي أرستها من يوم تأسيسها للمليشيات في الوطن العربي لتنفذ نيابة عنها أجندتها من دون أن يلحق بإيران أي عبء سياسي أو أخلاقي أو قانوني.
لهذه العوامل وأسباب أخرى فإن توقع نشوب حرب ضد إيران، يبدو أمرا في غاية الصعوبة على الرغم من أن حربا كهذه تعد الطريق الأمثل لإعادة إيران إلى حدودها ونزع شعاراتها بتصدير الثورة، وذلك للأسباب التالية:
1 – إن الولايات المتحدة لا ترى في إيران خطرا حقيقيا على مصالحها ولا على مستقبل إسرائيل الحليف الاستراتيجي الوحيد للولايات المتحدة في العالم بأي قدر من المقادير رغم شعارات (الموت لإسرائيل والموت لأمريكا) التي ما فتأت تُرفع منذ شباط/ فبراية 1979 وحتى اليوم بلا كلل في طهران وسائر المدن الإيرانية أو المدن التي يتواجد فيها عملاء إيران، فأمريكا لا تهمها الشعارات وإنما النوايا الاستراتيجية للدول المعززة بخطوات على الطريق، ولهذا فإن الولايات المتحدة تتعامل مع إيران كثور خرج من الحظيرة في غفلة من حارسها وتريد استعادته والتعامل معه سياسيا واقتصاديا كحليف استراتيجي، لنأخذ تصريحات ترمب أثناء زيارته لطوكيو والتي قال فيها، إن إيران ستكون دولة عظيمة بنظامها الحالي إذا تحولت إلى دولة طبيعية، وعلينا أيضا أن نستذكر ما نسب إلى كوهين بن رودس مستشار الرئيس الأمريكي السابق باراك حسين أوباما وكاتب خطاباته والتي يقول فيها إن أوباما يحتقر العرب وينظر إليهم كبدو متخلفين في حين يكن أعلى مشاعر الاحترام لإيران باعتبارها بلد يمتلك حضارة عميقة الجذور، كما أن أسس العلاقات الأمريكية الإيرانية ليست ابنة لحظتها، بل هي قديمة قدم قيام ما يسمى بدولة إيران التي قامت على أنقاض بلاد فارس، ومن المفارقات التي يجب التوقف عندها أن جميع الرؤساء الذين تعاقبوا على رئاسة الولايات المتحدة بعد وصول خميني إلى السلطة لم يبادروا بموقفٍ عدائي عسكري واحد وكذلك الحال بالنسبة لإيران مع أمريكا حتى وإن كانت الشعارات العالية تتردد في عنان السماء بالموت لأمريكا، أو في الشعار الأمريكي المطروح عن إيران بأنها مثلث الشر، ولكن خطوة عملية لنقل الشعار من أدراج الخطاب السياسي والإعلامي إلى أرض الواقع لم تتخذ، على النقيض من مواقف التحالف الغربي ضد العراق والذي انتهى بشن أوسع عدوان عرفته البشرية منذ الحرب العالمية الثانية، والذي حظي بدعم كامل من دول الخليج العربي من دون استثناء، إذ أن العراق لم يجاهر بتحدي المجتمع الدولي كما تفعل إيران اليوم، فتعرض لعدوان دولي غير مسبوق دمر بنية الدولة العراقية واجتثها من جذورها ووقف حائلا دون إعادة بنائها حتى على وفق الرؤية الأمريكية.
2 – العدوان على العراق وما تكبدته أمريكا من خسائر كبيرة في الجنود والمعدات والأموال ترك جروحا غائرة في عمق الوجدان الأمريكي، وأوجد حاجزا نفسيا عاليا بين الشعب الأمريكي وخوض أي مغامرة جديدة تعيد إلى الذاكرة تجربة الهزيمة الأمريكية في فيتنام والعراق وأفغانستان، وتساؤلا عما إذا كانت هناك فاتورة على أمريكا دفعها للدفاع عن العالم وأمنه السياسي والاقتصادي؟ وأمريكا هي التي أعلنت على لسان ترمب بأنها لن تكون شرطيا لحفظ أمن الآخرين.
3 – حساسية العلاقة بين الرئيس الأمريكي والحزب الديمقراطي بسبب قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية التي أوصلت ترمب إلى البيت الأبيض، فالديمقراطيون ما فتأوا يفتحون هذا الملف متى أرادوا الضغط نفسيا على ترمب، على الرغم من اقتراب رئاسة ترمب من نهايتها، فالرئيس يعرف أنه إن تورط في حرب من دون موافقة الكونغرس فإنه سيضيف إلى سجله السياسي مخالفة أخرى، وإن تقدم بطلب للحصول على هذه الموافقة فلن يحصل عليها بسبب تمتع الديمقراطيين بالأغلبية في الكونغرس.
لكن ترمب أرسل حشدا بحريا وجويا هائلا إلى منطقة الخليج العربي فارتكب فعلا سيتعرض بسببه للمسائلة في كل الأحوال عن سبب أرساله هذا الحشد العسكري الكبير إلى المنطقة والتكاليف التي ستتكبدها الخزينة، فهل يعقل إرسال هذا الحشد البحري والجوي لمجرد إخافة إيران؟ يبقى هذا السؤال معلقا على أجنحة الانتظار.
ليس هذا فقط بل يلاحظ المراقبون أن أركان الإدارة الأمريكية غير منسجمين فيما بينهم ولا مع أنفسهم ولا مع الرئيس نفسه على الرغم من أن ترمب كان أكثر رئيس في تاريخ الولايات المتحدة استبدالا لمساعديه كما يفعل ذلك مع ملابسه الداخلية من أجل جلب الفريق المنسجم معه.
4 – حِرصُ الرئيس ترمب على تجنب أي مواجهة مع إيران مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي ستعقد في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، فهو يريد خوض الانتخابات مع رصيد عالٍ من المكاسب الاقتصادية التي حققها للشعب الأمريكي مثل خفض مستوى البطالة وانخفاض التضخم بنسب ترضي رغبات الشارع الأمريكي.
5 – إن الحرص على أمن الطاقة الدولية وسلامة ناقلات النفط التي تمخر عباب الخليج العربي ومضيق هرمز والبحر العربي ثم المحيط الهندي حتى وصولها بأمان إلى المستهلكين الدوليين، يعد أهم الكوابح الرادعة للولايات المتحدة عن خوض مغامرة غير محسوبة النتائج، ذلك أن إيران تلوح بتهديداتها ليل نهار بأنها إن توقفت عن تصدير نفطها فإنها لن تسمح لنفوط الدول الأخرى من الإبحار في الممرات المائية التي تزعم أنها قادرة على إغلاقها متى شاءت، لذلك يرى محللون عسكريون أن إيران تستطيع تهديد الملاحة الدولية نفسيا على الأقل وإدخال بورصات النفط في قلق متزايد يرتفع وينخفض مع الأجواء السياسية، كما أن إيران قادرة ولو بشكل جزئي على فعل ذلك كما حصل لضرب سفن تجارية وناقلات نفط قرب المياه الاقتصادية لميناء الفجيرة في 12 أيار/مايو الماضي ثم ألحقت ذلك بضرب ناقلتي نفط في خليج عُمان بعد شهر واحد، مما أدى إلى سقوط كل الشعارات النارية التي كان ترمب ووزير خارجيته بومبيو أو مستشاره للأمن القومي بولتون، يطلقونها بأن إيران ستتعرض لرد فعل أمريكي صاعق إذا ما هددت مصالح الولايات المتحدة أو أمن أصدقائها أو خطوط الملاحة الدولية، فبدلا من الرد الميداني راحت الإدارة الأمريكية تبحث عن أدلة وبراهين وتحقيقات لتأكيد ضلوع إيران بتلك الجرائم، وحتى عندما أكدت الدلائل مسؤولية إيران عنها كما ورد على لسان ترمب نفسه راح يستجدي رئيس الوزراء الياباني للتوسط بين البلدين، ولكن خامنئي رفض مجرد تسلم رسالة ترمب.
6 – الولايات المتحدة وإسرائيل ومعهما الغرب والشرق يريدون إيران قوية ولكن بالحدود المدّجنة التي لا تخرج عن السيطرة، لأن إيران القوية حاجة استراتيجية لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل تُوجِد أسباب التوازن في منطقة الشرق الأوسط وتجعل العرب بأمس الحاجة إلى قوة خارجية لدعمهم تدرأ عنهم الخطر الإيراني، فالعرب هم الوحيدون الممنوعون من امتلاك أسباب القوة الذاتية للدفاع عن أنفسهم، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن نظرية ولاية الفقيه التي أوجدها خميني داخل المذهب الجعفري الاثني عشري، شكلت في واقع الحال شرخا عموديا في الصف الإسلامي وهذا هدف تحقق للغرب بعد تخطيط طويل الأمد حول إيران من دولة داخل حدود معترف بها إلى قوة إقليمية خارجة عن كل الضوابط القانونية والأخلاقية المنظمة للعلاقات بين الدول.
الأزمة التي تمر بها منطقة الخليج العربي معقدة إلى حدود بعيدة، وهي جزء من أزمة الأمن القومي العربي التي تعرض لأقسى ضربة في تاريخه يوم تآمر العرب مع الشرق والغرب على العراق لإخراجه من المعادلة الاستراتيجية، فحققوا لإيران حلمها التاريخي ولإسرائيل حلمها الديني بضرب العراق، فبات العرب يبحثون عن نصير أو مجير لهم من المحن التي باتت تعصف بهم من الجهات الأربع.
فهل هناك مخرج من عنق الزجاجة؟
لا حل إلا في الأمن الذاتي للعرب مجتمعين ولكل دولة عربية شرط امتلاك الإرادة السياسية وحرية اتخاذ القرار بمعزل عن الضغوط والتأثيرات الدولية، وإلا فإن إيران ستبقى تعبث بالأمن القومي العربي ما تردع عن نواياها، لأن إيران صارت خبيرة في إدارة الأزمات لا في حلها فهي تكرس كل جهدها لكسب المزيد من الوقت اعتمادا على مبدأ تسلل الملل إلى نفوس العرب المعروفين بنفاد الصبر والبحث عن حلول سريعة من قاعات الحوار.
ولكن علينا أن نسلم بحقيقة ثابتة في تاريخ العرب مع بلاد فارس، أن إيران لن تردعها الأمنيات ولا الشعارات الجميلة بل القوة التي تعيدها إلى حجمها الحقيقي وتجرّعها كؤوس السم كما تجرّعها خميني عندما وافق راغما على قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 598 والخاص بوقف إطلاق النار في الحرب عام 1988 عندما بدأت الصواريخ العراقية تتساقط على مقربة من حسينية جمران، ومن القهر الذي لحق به مات خميني حتف أنفه بعد سنة من تجرّعه كأس السم، لكنه لم يمت إلا بعد أن غرس بذور الفتن والاضطرابات والإرهاب على طول الأرض وعرضها.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى