فروض الكتابة هنا لها قدسية خاصة فقد إختصر المؤلف وباقتدار المسافة المفترضة ، واحياننا المتضخمة بين القارىء والنص ، وأوجد افقا واقعيا يمكن تدوينه وتوثيقه أزاء قضية كانت ولا زالت تمثل قاسما مشتركا لكل العراقيين على اختلاف اراءهم ومذاهبهم السياسية والاجتماعية .
وقد استخدم المؤلف الكلمة والصمت معا لبناء رابطة نشطة مع القارىء من أجل الانخراط في ماراثون حسم المسافة المقطوعة بين الواقع والمتوقع وحيث تسكن الحقيقة ، ليس على مستوى العنوان للكتاب – الوثيقة ، ولكن لمضمون اخر تقف فيه السياسة ويشخص فيه الاقتصاد وتتدافع في الافكار والمبادىء .
هذه بالنسبة لنا نحن القراء ، وتلك الخمسون عاما بالنسبة للمؤلف ، هي مخاض العمر باسره ، ولا يمكن قراءة النص دون ادراك المعاني المضمرة في الرواية الخارجية لتداعي الاحداث ، فالمؤلف هنا هو مادة الحدث وهو الشاهد في الوقت ذاته . وهذا العلاقة تمكن الكاتب من بناءها بحرفية المختص ، وبأمانة المهني في تتبع قصة النفط على مدى العقود الخمس التي عاشها بكل تفاصيلها واحداثها ، اي بكل نجاحاتها ومعاناتها وانكساراتها .
خمسون عاما ، او خمسة عقود ، سردية موثقة ومخلصة عن واقع العراق ورحلته السياسية وتحرره من قيد الهيمنة الاقتصادية وكفاحه المقدس في تحرير ثروته النفطية او بالاحرى في تحرر العراق ، في كل يوم هناك ثمة قصة عراقية بامتياز ، ولقمة خبز مغموسة بالطين وممهورة بالدم . … الا يذكرنا ذلك بالعمل التأريخي الذي كتبه ستيفن لونكريك ( أربعة قرون من تأريخ العراق ) أو خماسية عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في ( لمحات إجتماعية من تأريخ العراق الحديث ) كذلك ما تركه لنا الروائي العربي عبد الرحمن منيف في ( مدن الملح ) باجزاءه الست ، وجميعها تشترك في سرديات الاحداث التي عاشها العراق وكل حسب الزاوية التي ينظر عبرها نحو العراق ومستقبله.
عصام الجلبي قدم لنا في كتابه فصاحة معرفية علمية في الادب السياسي والاقتصادي العراقي الحديث ، ووحقائق أكثر بلاغة في تتبع رحلة النفط والدم في العراق منذ ان تفجر اول بئر للنفط ، وتداعيات دخول النفط في شريان حياة العراقيين بايقاع يتقلب ويلتوي مع وجع العراقيين وتطلعهم نحو الحرية الكرامة .
هذا الكتاب ، ولا اريد ان أسبق ما سيقوله غيري يعقد علاقة مع القارى لا يمكن الفكاك من اثارها ، لانه ببساطة مزيج من السيرة الشخصية المتوازنة ، والذاكرة الوطنية الصافية في نسيج لغوي متحرر من الصياغة المصطنعة ، والمعتمدة على غائية متوافقة مع مسار النضال الوطني التحرري لبناء صناعة نفطية وطنية متحررة من كل اشكال الهيمنة والاستغلال .
ويمثل ضمير الكاتب هنا مدخلا لاكتشاف قصة النفط وتطوراتها ، وبالتجاور مع أحداث وتأريخ العراق السياسي الحديث ، ولم يذهب المؤلف الى التلميح او الايحاء ، ولا تحتاج كلماته الى الترجمة ، ولا المعاني الى التأويل ، بل كان يتحدث بلغة صافية مباشرة ومدعمة بالوثائق ومعززة والارقام تطرق باب القلب قبل العقل .
الكتاب شهادة وطنية شجاعة ومخلصة في زمن يغطي فيه غبار التداعي والاختلال على صفحة الواقع ، ويسعى نحو تزويرها واخفاء حقيقتها .