ربما يكون العنوان قاسيًا واستفزازيًا ولكن ومع الأسف فانه لا يحيد عن الحقيقة ولا يتجنى على واقع حال. ومن يقول عكس ذلك لا يعلم ان هناك حقائق لم يطلع عليها الكثير من العراقيين تتعلق بهذه الوثيقة الأساسية، وبما ان الحديث يجري الان عن تعديله، فمن المفيد ذكر بعض هذه الحقائق التي غُيبَت عن قصد من قبل واضعي الدستور والمستفيدين من صيغته الحالية.
أولآ: لا بد من التذكير بان الدستور العراقي لم يكتبه العراقيون بأنفسهم. وان من كتبه هو مدرس قانون أمريكي يهودي صغير، سنا ومرتبة علمية وأكاديمية، ولا يمتلك معلومات كافية عن العراق ولا عن الدساتير العراقية، وانه كلف من قبل سيء الصيت بريمر بكتابة دستور وفقا لقانون إدارة الدولة الانتقالي (الذي اقره بريمر ايضا بدون استشارة اي عراقي). وقام بترجمته محامي عراقي مغترب درس وعاش في الولايات المتحدة، ولهذا جاءت الترجمة ضعيفة وركيكة من ناحية اللغة القانونية. (و دُفِع للاثنين ملايين الدولارات على هذه المهمة). وان بريمر لم يفكر باستشارة اي عراقي مختص واحد اثناء كتابة نصوصه. وعندما تسربت اخبار عن وجود دستور جاهز سوف يطرح على العراقيين قريبا اعترضت المرجعية في النجف الأشرف، واعلنت ان العراقيين سوف لن يقبلوا باي دستور لا يكتب من قبلهم. عندها اضطر بريمر الى تشكيل ما عرف ب (لجنة كتابة الدستور) من عراقيين لم يكن بينهم خبير دستوري واحد.
ثانيا: ان هذه اللجنة لم تتجرا على المساس بالمواد التي قدمها لهم بريمر، كل الذي فعلوه انهم أضافوا ديباجة وبعض المواد التي مثلت التفكير الطائفي والعرقي والتي طُرِحَت من قبل الأحزاب الدينية الطائفية والأحزاب الكردية. وللعلم فان الأحزاب الكردية كانت الوحيدة التي استعانت بلجنة من الخبراء الغربيين كانت تتابع مع أعضاء لجنة كتابة الدستور من الأكراد، ونجحت في وضع مواد فيه، كانت ولا تزال بمثابة (الغام و مطبات) و لا يمكن ان تفسر سوى انها تمهد لانفصال المحافظات الكردية. وللتدليل على هذه النية السيئة كتب احد هؤلاء الخبراء فيما بعد كتابا باللغة الإنكليزية، وتُرجِمَ للعربية، اسماه ( نهاية العراق). كما ان السيد مسعود البرزاني قال بنفسه اثناء طرحه لفكرة الاستفتاء ان الأحزاب الكردية كانت قاصدة وضع عبارة ( دولة اتحادية وليس موحدة) لكي يعتمد عليها عند طلب الانفصال. أما الديباجة التي وضعتها الأحزاب الطائفية والفقرات التي تتحدث عن حقوق مذهب واحد فلقد كانت من أسوأ ما أضيف للدستور لانها تثير الضغائن والأحقاد وتحرض ابناء الشعب الواحد بعضهم على بعض. (علمًا بان كل محاولات الكاتب للتحدث مع أعضاء من هذه اللجنة اثناء كتابته بحثا عن الدستور، نشر قبل ثمان سنوات من قبل جامعة لندن،فشلت بسبب تهرب من تم الاتصال بهم، وعلى الرغم من العلاقة الطيبة التي كانت تربطني ببعضهم).
ثالثًا: تضمنت المناقشات التي جرت حول المسودة الحديث عن 139 مادة فقط، وتم اغتيال ثلاثة من الأعضاء الذين أضيفوا الى اللجنة الأولية لانهم كانوا يصرون على تثبيت مواد تثبت عروبة العراق وترفض المواد التي فيها إشارات طائفية او عنصرية. مما دفع المعارضين الباقين الى التزام الصمت خوفا على حياتهم.
رابعًا: اعترف اكثر من سياسي فيما بعد، (من بينهم الدكتور محمود عثمان والدكتور محمود المشهداني) بحقيقة ان اللجنة ناقشت مسودة كانت مكتوبة مسبقا، واعترف اخرون بان اللجنة (اجبرت) على التصويت لصالح هذه المسودة من قبل سلطات الاحتلال ومن بريمر والسفير الامريكي بالذات. وكل ذلك لان الولايات المتحدة ارادت ان تقول بانها انجزت عملية تحويل العراق الى ديمقراطية، و تُجري انتخابات بأسرع وقت كي تنفذ خطتها التي عرفت ب ( ستراتيجية الانسحاب المبكر) بعد ان اشتدت عمليات المقاومة وازداد عدد القتلى من الأميركان.
خامسا: والأهم، ولكي تضمن إدارة الاحتلال موافقة المحافظات الغربية من العراق، التي كانت رافضة لما كان يُسرب من معلومات عن الدستور، (حيث ان المسودة لم تطرح علنًا مطلقًا)، جرى إقناع قيادات احزاب في العملية السياسية لكي تلعب أسوا دور وذلك عن طريق خداع و إقناع ابناء هذه المحافظات للتصويت لصالح الدستور على أساس انه عُدِلَ بطريقة تحفظ عروبة العراق وحقوقهم كعراقيين متساوين. و اتفقت إدارة الاحتلال مع هذه ( القيادات) على إمكانية أضافة مواد اخرى الى المواد ال 139 التي تم النقاش عليها واقرارها نهائيًا، تبيح عملية تعديل المواد التي لم تكن مقبولة من قبل جماهيرهم. و لكن هذا لا ينفي الحقيقة التي تقول ان المناقشات والتصويت والإقرار لم يتم على المواد المضافة بصورة غير شرعية وبعد إقرار الصيغة النهائية، ( وهذا ما جرى التكتم عليه في حينه وفضحه احد أعضاء لجنة تعديل الدستور التي شكلت مؤخرا)، وهكذا حصل التزوير الأول. و لذلك فان كل المواد التي تأتي بعد المادة 139 هي مواد غير شرعية وأضيفت بصورة غير قانونية ولم يتم مناقشتها من قبل اللجنة، والأكثر من ذلك انها لم تطرح للتصويت مع المواد ال 139 التي اقرت.
سادسا: ولإثبات ما قيل أعلاه، كتب احد الخبراء الأميركان الذين ساهموا في المناقشات حول المسودة او بالأحرى مراقبتها، قبل يوم من الاستفتاء في احدى الصحف الأمريكية الكبيرة (لوس إنجيليز تايمس) مقالة بداها بالقول ( غدًا سيذهب العراقيون للتصويت على دستور لم يقرأوه ولم يكتبوه ولم يساهموا في مناقشة بنوده ولا يعرفون شيئا عن محتواه).
سابعا: عند اجراء التصويت رفضت أربعة محافظات المسودة. جرى الاعتراف برفض محافظتين ( الأنبار و صلاح الدين)، وجرى التعتيم على نتائج الثالثة (ذي قار – التي تشهد هذه الأيام اعنف تظاهرات الرفض للعملية السياسية)، حيث تم الادعاء ان النتائج كانت مؤيدة، أما الرابعة ( نينوى) فلقد كانت عمليات التلاعب والتزوير التي جرت بشأن إقتراعها اكثر من مفضوحة. فبعد ان توضح ان محافظتين قد رفضتا المسودة وان الحاجة هي لاعتراض محافظة ثالثة لكي يرفض الدستور الجديد، وبعد ان كانت وسائل الإعلام تتابع فرز الأصوات بالموصل، واشارت النتائج الأولية ان الأصوات الرافضة كانت اكثر من الموافقة، تم إيقاف الفرز بايعاز من إدارة الاحتلال ونقلت الصناديق الى بغداد وأعلن بعدها ان الرافضين كانوا اغلبية بسيطة لم تصل الى نسبة الثلثين وبالتالي فإن هذه النتيجة لا تعتبر رفضا. و هكذا نجح التزوير الثاني والأكبر .
ثامنا: ان من اهم قواعد القانون الدولي هو ان لا تقوم دولة الاحتلال بإلغاء قوانين ودساتير الدول التي تحتلها، وان لا تضع لها قوانين جديدة الا في حالة وجود حاجة ملحة لحماية حقوق الإنسان. ولقد حاولت الولايات المتحدة في حالتين سابقتين فعل ذلك في دولتين احتلتهما بعد الحرب العالمية الثانية (ألمانيا واليابان). ولكن من حكم البلدين انذاك وعلى الرغم من هيمنة الاحتلال رفضا ذلك و أحالا الامر الى مشرعين وطنيين كتبوا دستورين لبلديهما. وما دام الشيء بالشيء يذكر فان ساسة العراق بعد عام 1921 والذي كان محتلا من قبل بريطانيا رفضوا مسودة دستور تمت كتابته من قبل الدولة المحتلة، وقاموا بإحالة المسودة الى مشرعين عراقيين مختصين قاموا بدراستها، واستغرق الامر سنتين (1923 – 1925) اجروا فيها التعديلات ووضعوا بصمتهم عليها ثم تم اقرارها. في حين ان الدستور الحالي لم يستغرق النقاش حوله وإقراره غير أسابيع قليلة.
تاسعا: في الحديث عن المطبات يحار المرء ماذا يكتب، فمثلا لم يتحدث الدستور في اي فقرة من فقراته عن وحدة وسيادة الأراضي العراقية، وحتى القسم الذي يؤديه رئيس الجمهورية جاء خاليا من هذه العبارات!!!! بينما احتوى الدستور على فقرات تثبت ممارسات طائفية لطائفة معينة، ولم يتم الحديث عن حقوق مماثلة للطوائف الاخرى. كما احتوى الدستور على تضارب مقصود في مواده، فمثلا تقول احدى المواد انه في حالة تعارض مواد الدستور، (الذي هو في كل دول العالم الوثيقة الاسمى والأعلى مرتبة والتي تلغي اي قانون او تشريع يتعارض معها)، مع مواد الدستور المحلي لإقليم كردستان تكون الغلبة للقانون المحلي!! كما تقول مادة اخرى ان الثروات الطبيعية المستثمرة او المكتشفة هي ملك لكل الشعب العراقي، الا ان فقرة تالية تقول ان الاستكشافات الجديدة تكون ملكا للإقليم. كما استحدث الدستور تعبير طاريء جديد هو ( المناطق المتنازع عليها) والذي يعطي الانطباع ان هناك نزاعا بين مكونات الشعب الواحد على أراضي البلد الواحد، الأمر الذي اشعل خلافات وصلت الى حد استخدام القوة المسلحة لفرض إرادة او رغبات طرف على اخر، ولم يتوقف الامر عند مطالبة اقليم كردستان بأراضي من كل المحافظات المجاورة، وإنما انتقلت العدوى الى محافظات عربية اخرى، وأصبحت النزاعات الداخلية سمة للعلاقة بين مكونات الشعب الواحد. اما اخطر المطبات فان الدستور الذي كان يجب ان يلغي قانون إدارة الدولة الانتقالي ( المؤقت) الذي وضعه واقره المحتل، وردت فيه، او أضيفت اليه، مادة تقول ان اي تعديل للدستور الدائم يجب ان لا يشمل مادتين وردتا في قانون إدارة الدولة والتي تتعلق بامتيازات لإقليم كردستان. هذه الأمور كلها يمكن ان تفسر لماذا عندما يتحدث اي طرف من أطراف العملية السياسية يبدا حديثه بالقول (استنادًا ووفقًا لمواد الدستور)، لان كل طرف يستطيع ان يستخدم او ان يستند الى مادة تتعارض مع المادة التي يستند لها الطرف الآخر. وأخيرا فقد ربط اي تعديل بعدم رفض ثلاث محافظات لذلك، وهذه المادة وضعت تعديل الدستور رهينة بيد الأحزاب الكردية خاصة.
ان كل ما قيل اعلاه يثبت ضرورة ان يقوم العراقيون بأنفسهم بكتابة دستور جديد او ان يقوموا بتعديل الحالي تعديلا جوهريا. فهل سينجحوا في ذلك؟ نظريًا نعم يمكن ان ينجحوا لانهم يمتلكون من العقول القانونية والمشرعين ما يمكنهم من فعل ذلك بكل سهولة، ولكن عمليًا يبقى هذا الامر صعبًا في ظل وجود الأحزاب المشتركة في العملية السياسية المستفيدة من هذه الوثيقة التي مزقت العراق. وخير دليل على ذلك ان اللجنة التي كلفت الان لإجراء تعديلات على الدستور، وبعد كل الذي عاناه العراق من النسخة المعتمدة، شُكِلَت وفق مبدأ المحاصصة ولا يوجد فيها خبير دستوري واحد، لا بل ان الغالبية العظمى من أفرادها ليس لديهم حتى اختصاص في اي فرع من فروع القانون، هذا اذا كان لدى بعضهم شهادة جامعية صحيحة.