دور الاقتصاد في بلورة الوعي

من بديهيات القول إنه عندما تتوفر الظروف الموضوعية والذاتية تبدأ عملية التغيير فِي الزمان والمكان المحددين. وعند وصف الحال في العراق، منذ أن احتلته قوات الغزو الأمريكية وحلت الجيش العراقي الوطني ومؤسسات الدولة، ودمرت بناه الارتكازية الاجتماعية والتقنية، ولاحقت الوطنيين من أبناء الشعب العراقي وتدمير الاقتصاد العراقي برمته: الصناعة والزراعة وقطاع الخدمات. وبقي المجتمع العراقي يعيش على مدخلاته من النفط.
وبدات الأمور تسير من سيء إلى أسوأ حتى العام ٢٠١١ عندما سلمت أمريكا العراق إلى إيران والأحزاب والمليشيات التابعة لها بهدف القضاء على ما تبقى من أسس مادية للحياة. حتى ظهرت حالة الفساد المالي والإداري وتطورت بنحو خطير.


والفساد من اخطر الظواهر المدمرة والمعيقة للتنمية.
وبعد ارتفاع أسعار النفط، التي وصلت إلى اكثر من ١٠٠ دولار للبرميل الواحد ارتفعت ايرادات العراق جراء ذلك وبزيادة كبيرة جدا، وعلى وجه التحديد في زمن حكم المالكي، وكانت هذه الزيادة بحدود الترليون دولار. ولم يستخدم هذا المبلغ بنحو عقلاني، بل تم تبديده وسرقته بطرق مختلفة.

مقالات ذات صلة


ذلك كله أدى إلى تدمير الاقتصاد العراقي وبصفة كاملة وأصبح الوضع الاقتصادي والاجتماعي سيئاً للغاية. ونتيجة لما حدث ويحدث في العراق ثمة أكثر من ستة مليون مهجر ونازح ومشرد وساكن خيام ومجتث ونزيل سجون وهنالك أكثر من ثلاثة مليون ارملة، وحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونسيف، هناك عديد من الأطفال الأيتام في العراق يقدر بخمسة ملايين طفل من مجموع نحو ١٤٠ مليون طفل في العالم.


والبطالة في العراق وصلت إلى أكثر من ٤٠ بالمئة، كما أعلن صندوق النقد الدولي، في العام ٢٠١٨، فيما واصل قطاع التعليم والصحة والخدمات انحداره وأصبح من أسوأ عشر دول في العالم، من خلال تدمير ٨٠ بالمئة من البنى التحتية للقطاع الصحي، وأصبح البلد يعاني من نقص في الدواء والأطباء والاجهزة الطبية.


كما تم تدمير الأسس العلمية لقطاع التعليم وانتشار ظاهرة تزوير الشهادات وبيع الأسئلة ومغادرة الأساتذة والعلماء الأكفاء بسبب العنف، الذي مورس ضدهم. وانتشرت الأمية ووصلت إلى حدود ٥٠ بالمئة، بعد أن كانت معدومة.
وتفيد المعلومات الموجودة لدى هيئة النزاهة بوجود أكثر من ١٥٠ الف شهادة مزورة.
فضلا عن انخفاض مستوى الخدمات وتدنيه، بصفة عامة، وبالأخص الكهرباء والماء وهما أساسان لإدامة الحياة وأثرهما على العملية الإنتاجية في البلد، بالإضافة إلى ذلك هنالك أكثر من ٢٥ ألف عراقي يتعاطون المخدرات وتضاعف العدد، الآن.


كما وصل الرقم القياسي للمستوى العام للأسعار إلى ٥١ بالمئة، ونتيجة لذلك حصل التضخم إلى جانب البطالة وهي ظاهرة اقتصادية معقدة المعالجة ويوجدبحدود ٤ ملايين عراقي يعيشون دون حد الكفاف، وهنالك العديد من مظاهر الفساد المالي والاداري لا مجال لذكرها، على سبيل المثال، الموظفون الفضائيون فبلغ عديدهم في وزارة الداخلية فقط بحدود ٥٠ ألف موظف.
وسرقة النفط والعقود الوهمية مع شركات وهمية وسرقة كل شيء في العراق لذا أصبح العراق من أفسد بلدان العالم، حسب مقاييس النزاهة.
وبسبب ظاهرة الفساد وجدنا ان العلاقة قوية بين الفساد ودرجة اللامساواة في المجتمع. مما يؤدي إلى توزيع غير عادل بين السكان وسيزيد الفقير فقراً والأغنياء غنى، وسيؤثر على مستوى التنمية البشرية وعلى مستوى رفاه المجتمع، بنحو عام، وسيعمق الصراع الطبقي داخل المجتمع حتى يصل إلى حد الانفجار.
وبناء على ما تقدم نجد ان جميع الظروف الموضوعية والذاتية متحققة في الوضع العراقي ولكن برغم ذلك لم تحدث عملية التغيير.


وفِي اعتقادنا أن سبب ذلك يعزى إلى العوامل الخارجية الضاغطة وان التدخل الأمريكي والإيراني والصهيوني يمثل العامل الحاسم، الذي أوقف عملية التغيير وقاد إلى تأخيرها، فضلا عن دور المؤسسة الدينية في تضليل الجماهير واستغلال المذهب في تأجيل عملية التغيير.


ومع ذلك فلا بد من ان يأتي اليوم الذي لا تستطيع هذه القوى أن تمنع الجماهير بحسم الموقف لصالحها كون عملية التغيير هذه هي نتاج موضوعي يؤسس على تراكم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والتغيير يتحقق بوعي الجماهير وإرادتها، فالباعث الاقتصادي والاجتماعي هو الذي سيوقظ الجماهير، التي لا تزال راقدة لحد الان ليدفعها إلى الحركة ويسوقها نحو التغيير.


فكلما تفاقم بؤس الجماهير اشتد شقاؤها أكثر من المألوف، وكلما اشتد غضبها وصلت الأمور إلى هذا الحد، حتى لو كان حجم التضليل كبيراً وتأثير المؤسسة الدينية واسعاً واستخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين من قبل أجهزة السلطة ومهما استخدموا من وسائل لن يكون بإمكان اي قوة أن تسكت الجماهير الجائعة والغاضبة. فالعامل الاقتصادي والضروري لديمومة الحياة يمثل أهم عوامل التحفيز ويسهم بنحو مباشر بتشكيل الوعي الجمعي عند الجماهير الجائعة والمضطهدة والمظلومة.


عندما يصل الظلم إلى أقصاه والجوع والمرض والبؤس إلى أقصاه والبطالة وانعدام الدخل وتعميق الطائفية والعنصرية ويمارس الاضطهاد إلى أقصاه، عندئذ، سيبدأ المنتفضون بالمواجهة الحقيقية مع السلطةالعميلة القمعية،وستتغير مطالبهم من مطالب مادية إلى مطالب سياسية وعلى رأسها تغيير النظام السياسي الفاسد والمنحرف برمته، بخاصة ان العملية السياسية وأصحاب القرار فيها غير قادرين على الإطلاق أن ينفذوا أبسط المطاليب، التي يطرحها الثوار ولأسباب تتعلق بغياب الإرادة في التغيير فضلا عن العجز المالي، الذي تعاني منه الميزانية، علماً أن الدين العام العراقي بلغ هذا العام أكثر من ١٥٠ مليار دولار وتأثير انخفاض سعر النفط على ذلك، وتالياً سيعجز السياسيون من تحقيق مطالب الثوار وهذا مما سيجعل الثوار يفقدون الثقة بنحو كامل وسيطالبون باسقاط العملية السياسية وتغيير الدستور ومحاسبة الفاسدين والسراق وغيرها من مطالبهم المشروعة.


وَمِمَّا تقدم تتضح لنا أهمية العامل الاقتصادي ودوره في بلورة الوعي عند الجماهير وانعكاس ذلك على المواقف السياسية.


إن الجماهير بقواها الوطنية كلها هي التي تمثل الأداة الثورية، التي تقود عملية التغيير الجذري للواقع المرير، الذي يعيشه العراق.


إن الوعي الجمعي العراقي قد تشكل وبخاصة لدى الشباب المنتفض الذين عبروا عن وعيهم بالشعارات، التي رفعوها والتضحيات، التي قدموها وبالأخص شعار (نحن نريد وطن)، والواجب الوطني المفروض على كل عراقي شريف هو دعم الثورة الشبابية وتطوير عملها وإدامة زخمها حتى تحقيق النصر المؤزر .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى