منذ أن أُقحمت الديمقراطيّة في العراق بعد العام 2003، انقسم العراقيّون إلى فريقين:
فريق تصوّر أنّ الديمقراطيّة آليّة حقيقيّة يمكنهم من خلالها أن يختاروا الأفضل والأجدر لتمثيلهم في عموم محطّات إدارة الدولة! وفريق آخر، آمن تماما بأنّ المولود الحديث، – الديمقراطيّة – لا يمكن أن يكون طفلا صالحا طالما أنّه نشأ في ظروف غير صحّيّة، وغير شرعيّة!
وسنحاول، بموضوعيّة، قراءة حقيقة دور الشعب العراقيّ في الممارسة الديمقراطيّة.
تقوم النظريّة الديمقراطيّة على المُنْتَخِب (المواطن) والمُنْتَخَب (المسؤول)، ولا يمكن تصوّر نظام ديمقراطيّ دون وجود مجموعة من البشر تنتخب أو توكّل مَنْ يمثّلها في مضامير الدولة المتنوّعة.
العلاقة الضبابيّة القائمة ما بين المُنْتَخِب والمُنْتَخَب في العراق، والتي تختلف عن غالبيّة دول العالم، جعلتني في دوّامة وبالذات وأنا أتابع التناحر القائم بخصوص نتائج الانتخابات البرلمانيّة (التي يفترض أنّها تمثّل رأي المواطنين) بين قوى ثقيلة في المشهدين السياسيّ والمسلّح في البلاد
ولكنّ العلاقة الضبابيّة القائمة ما بين المُنْتَخِب والمُنْتَخَب في العراق، والتي تختلف عن غالبيّة دول العالم، جعلتني في دوّامة وبالذات وأنا أتابع التناحر القائم بخصوص نتائج الانتخابات البرلمانيّة (التي يفترض أنّها تمثّل رأي المواطنين) بين قوى ثقيلة في المشهدين السياسيّ والمسلّح في البلاد!
ولا يمكننا، مثلا، تفسير إنفاق غالبيّة المرشّحين لملايين الدولارات أثناء حملاتهم الانتخابيّة، وهل يُعقل أنّهم ينفقونها لأجل خدمة الشعب، أم لغايات أخرى غير ظاهرة؟
ثمّ أين حرّيّة الاختيار لدى المُنْتَخِب (المواطن) الذي تدفع لبعضهم (رشاوى) علنيّة، وهدايا زهيدة للتصويت لفلان وفلان؟
هذه الحالة المربكة دفعتني للتفكير بهدوء وبعمق، وأن أتساءل:
هل الذين ذهبوا إلى ضفّة المشاركين أو المقتنعين بالانتخابات هم فعلا يُميّزون بين الصالح والطالح، والحقّ والباطل، والصحيح والخطأ، والخراب والبناء، النور والظلام، والحرب والسلام، والحبّ والكراهية، والديمقراطيّة والدكتاتوريّة؟ أم أنّهم ذهبوا وفقا لطوفان أو لسياسة التبعيّة التي تُخدّر معها أدوات التفكير؟
غالبيّة الناخبين، مع الأسف، لم يصلوا بعد إلى مرحلة النضوج الفكريّ والسياسيّ القادر على التمييز ما بين الحالات السلبيّة والجيّدة. ولهذا أرى، أنّ خلافات القوى الكبيرة حول نتائج الانتخابات قفزت على إرادة المقتنعين بالديمقراطيّة، وهي صراعات لاحتكار السلطة لمصلحة قوى تغوّلت في كافّة ميادين الحياة
بداية، يمكن القول إنّ غالبيّة الناخبين، مع الأسف، لم يصلوا بعد إلى مرحلة النضوج الفكريّ والسياسيّ القادر على التمييز ما بين الحالات السلبيّة والجيّدة. ولهذا أرى، أنّ خلافات القوى الكبيرة حول نتائج الانتخابات قفزت على إرادة المقتنعين بالديمقراطيّة، وهي صراعات لاحتكار السلطة لمصلحة قوى تغوّلت في كافّة ميادين الحياة، بإرادة خارجيّة بدايةً، وبتغافل دوليّ عن ممارساتهم الترهيبيّة بمختلف الأسلحة في المراحل اللاحقة.
وهذه الأسلحة المختلفة، المسكوت عنها، هي التي نشرت الرعب والخوف، وقتلت الديمقراطيّة، وسلبت إرادة وفكر واختيار المواطن، لتتشكّل لاحقا تحت مسمّى الديمقراطيّة في دولة مُرهقة!
وهذه الأسلحة المنفلتة ظهرت بصورة جليّة يوم الأربعاء الماضي بمحافظة ديالى (57 كلم شرق بغداد).
وقد بدأت الفتنة باختطاف عناصر داعش لأكثر من عشرة أشخاص من قرية الرشاد “الشيعيّة”، واتّفقوا مع ذوي المختطفين على دفع فدية لإطلاق سراحهم، وفي مكان وموعد دفع الفدية، ارتكب عناصر داعش مجزرة بحقّ الدافعين للفدية، وبعدها نفّذ عناصر داعش هجوما ساحقا على ذات القرية!
هذه الحوادث المركّبة تلتها، بعد عدّة ساعات، عمليّات انتقام مليشياويّة ضدّ “السنّة” في قرى الإمام والعامرية والميثاق الأولى والثانية المجاورة، ونتج عنها قتل تسعة أشخاص وتهجير 350 عائلة، وحرق لمنازلهم ولجميع ممتلكاتهم بفتنة طائفيّة مقيتة، رافقها صمت حكومي مريب، وتحكّم مليشياويّ إرهابيّ واضح!
ويقال بأنّ الحادث مُرتّب لعدم تصويت هذه القرى لمرشّح قريب من المليشيات!
بعد سنوات من الديمقراطيّة المملّة، صنّف تقرير لبرنامج الأمم المتّحدة للأغذية، الأحد الماضي، العراق بين سبعة بلدان الأشدّ جوعاً في العالم! وهنالك اليوم نحو 30 في المائة نسمة تحت خطّ الفقر في بلاد خيراتها فوق الأرض وتحتها!
وبعد سنوات من الديمقراطيّة المملّة، صنّف تقرير لبرنامج الأمم المتّحدة للأغذية، الأحد الماضي، العراق بين سبعة بلدان الأشدّ جوعاً في العالم! وهنالك اليوم نحو 30 في المائة نسمة تحت خطّ الفقر في بلاد خيراتها فوق الأرض وتحتها!
ويوم الثلاثاء الماضي، أكّد السفير الكنديّ ببغداد، أولريك شانون، أنّ العراق يأتي بالمرتبة 203 من أصل 208 ضمن البلدان الأقل استقراراً في العالم!
فهل يمكن للديمقراطيّة أن تنمو في مستنقعات الرشاوى والإرهاب والجوع والفقر وعدم الاستقرار؟
إنّ الديمقراطيّة ممارسة إنسانيّة ناضجة ومتقدّمة جدّا، تسمح للمواطنين بالمشاركة في اختيار من يمثّلهم في مفاصل الدولة، وبالذات في مجلس النوّاب الذي يعدّ المنصّة الرقابيّة الأقوى لأداء الحكومة!
وعراقيّاً، تمثّلت الديمقراطيّة الناضجة بالمواطنين الذين وصلوا إلى مرحلة القناعة التامّة بعدم جدوى المشاركة الانتخابيّة (الديمقراطيّة) لأنّ المواطن الذي يحترم فكره وعقله يحترم قراره وصوته الذي يضعه في صندوق الانتخاب؛ وعليه حينما يتيقّن الإنسان أنّ ما يجري لا علاقة له بالديمقراطيّة الصحّيّة السليمة، يكون قد بلغ مرحلة النضوج الحقيقيّ والوعي المُستنير!
الديمقراطيّة العراقيّة غير صافية، وفيها مليارات الشوائب، فمَنْ سيُنقّيها ويُعيدها لمسارها الديمقراطيّ الأصيل؟