ثلاثة برامج تلفزيونية، ظلت عالقة في اذهان مشاهدي تلفزيون العراق في العقود الاربعة المنصرمة، لاسيما من اعمار الاربعينيات، فأكثر، وهذه البرامج هي ” العلم للجميع “ للمرحوم كامل الدباغ، ” الرياضة في اسبوع “ لمؤيد البدري و” شيء من التاريخ “ وقد استمر تأثير تلك البرامج في الوجدان المجتمعي كثيرا، حيث اصبحت الامسيات التي كانت تعرض فيها، عنوانا لجمع الاسرة امام جهاز التلفزيون، في القناة الوحيدة آنذاك.
لم أجد صعوبة في محاورته د. محمد الادهمي الباحث والأكاديمي العراقي، ومن أكثر الباحثين تنقيبا في التاريخ السياسي الحديث والمعاصر ودراساته معترف بها عربيا وعالميا، وأيضا هو أحد الفرسان الثلاثة الذين حظوا بمحبة المشاهدين، فالرجل الذي حمل على كتفيه أعمدة نجاح برنامجه الشهير ” شيء من التاريخ “ ما زال يواصل عطاءاته وبحوثه التاريخية، وما زال اسمه يسحب المشاهدين اينما قدم من برامج تتسم بالوثائقية والصدقية.
حينما التقيته، كانت رغبتي شديدة في معرفة بدايات اعداد وتقديم برنامج ” شيء من التاريخ ” وفي ظني ان الكثيرين من القراء يرغبون بمعرفة تلك البدايات.. فماذا قال د. مظفر الادهمي:
– فكرة برنامج شيء من التاريخ جاءت في ضوء حوار مع بعض الزملاء المدرسين من الذين لهم علاقة بالتلفزيون، عندما كنت مدرسا في ثانوية العروبة ببغداد، وكنت قد نلت شهادة الماجستير في التاريخ الحديث عام 1972، حيث كنت محبا للتلفزيون ومتابعا للبرامج التاريخية التي كان يقدمها د. حسين امين وسالم الالوسي ود. مصطفى جواد، فاقترح علي زميلان ان يجرى لي اختبار في التلفزيون لمعرفة قدراتي في الاعداد والتقديم، وكان ذلك عام 1973.
واجتزت الامتحان منذ البداية دون خوف، وهكذا بدأت حياتي مع التلفزيون والتي أصبح عمرها الان نصف قرن من الزمن. أما عن البرنامج نفسه، فقد نسبت الى القسم الثقافي في تلفزيون العراق، واقترحوا علي اسم البرنامج، وبدأت بتقديم مقتطفات من تاريخ العراق الحديث ثم تاريخ فلسطين ثم انتقلت الى تقديم افلام وثائقية عن الحربين العالميتين الاولى والثانية والتي نالت شهرة كبيرة في حينها، لأنه لم يسبق ان عرضت في التلفزيون.
واذكر ان الممثل القدير (يوسف العاني) جاءني وقال لي: أنك انسان موهوب ولك حضور مميز على الشاشة وصوتك مؤثر، وانا معجب بتقديمك واتوقع لك مستقبل واعد.
هكذا قالها لي يوسف رحمه الله. وكان هذا بالنسبة لي شيء كبير من فنان مثل يوسف العاني.
الافلام الوثائقية
* معلومات مهمة عن البدايات، شكرا، لكن كيف كنت توفر المادة الفيلمية، اقصد الصور للبرنامج؟
ـــ نعم. بالنسبة لتوفير مادة البرنامج الصورية ،فقد كنت استخدم الارشيف المتوفر في التلفزيون وكذلك في المكتبات ، ولعل اهم شيء وفرته لي مكتبة تلفزيون العراق هي الافلام الوثائقية التي تم استيرادها من الخارج ، ولاسيما عن فترة الحكم الملكي في العراق هو مرحلة تأسيس الدولة العراقية الحديثة ، وبالذات مرحلة الملك فيصل الاول التي وضعت خلالها قواعد الدولة الدستور وقانون انتخاب النواب ، كما انها المرحلة التي كافح فيها العراقيون لأنهاء الانتداب البريطاني على العراق ،والذي تحقق بدخول العراق عضوا في عصبة الامم كدولة مستقلة في 3 تشرين الاول 1932 .
اما ما حدث من تطورات سياسية بعد وفاة الملك فيصل عام 1933، فتلك مسيرة طويلة لعبت فيها عوامل عديدة دورها، قادت فيما بعد الى سقوط النظام الملكي وقيام النظام الجمهوري عام 1958، ولا شك ان هناك احداث تاريخية داخلية وخارجية سببت هذا السقوط بالرغم من الايجابيات التي تميز بها العهد الملكي، ويأتي في مقدمة السلبيات عدم استيعاب الحرس القديم للتوجهات الجديدة للجيل الجديد الذي أصبح له تأثير على الساحة السياسية في العراق بعد الحرب العالمية الثانية.
كما ان التقاطع مع المد الثوري القومي الناصري وعدم تجنب الاصطدام معه، كان من العوامل السلبية الرئيسة التي قادت الى الثورة ضده والتي قام بها تنظيم الضباط الاحرار والاحزاب السياسية التي ائتلفت في جبهة وطنية. يضاف الى هذا الانتفاضات التي وقعت في الاعوام 1948، 1952، 1956. قد شكلت مقدمات لما وقع عام 1958.
* دكتور.. من المعروف عنك، استلامك لمسؤوليات اعلامية عديدة، بينما اختصاصك الأكاديمي هو التاريخ.. فما هي اوجه العلاقة بين الاثنين؟
ــــ العلاقة بين الاعلام والتاريخ، مثل العلاقة بين توأمين، لان التاريخ يمثل مختبرا ومصدرا مهما للإعلامي في عمله، فهو خزين احتياط لمن يريد ان يتناول في الاعلام المقروء او المرئي او المسموع قضية معينة او موضوعا او حدثا معاصرا، اذ لابد له ان يعود الى التاريخ كركيزة ومنطلقا لما يريد الاعلامي ان يصل اليه في الحاضر وفي استشراف المستقبل.
المعلومة الورقية مهمة
* قراءة التاريخ تحتاج الى التأني والصبر.. وكان جيلكم يبحث في بطون الكتب والاطاريح كثيرا ليصل الى نتيجة برؤية جديدة، فما رأيكم في الجيل الجديد الذي يعتمد الانترنيت في استقراء التاريخ؟
ــــ التأني والصبر هما من صفات البحث والدراسة والتعمق في العلم ، والكتاب اساس هذا العلم ، ولذلك كان جيلنا يعتمد الوثيقة والكتاب والمصدر المقروء على الورق ، الا ان التطور التقني المعاصر قد ادى الى ان يهجر الجيل الجديد المعلومة الورقية بفعل وجود النت ، فاصبح البحث عن الاسهل والاسرع سمة هذا العصر ، ومع وجود ايجابيات لهذه الظاهرة بتوفير الصحيفة والكتاب الالكتروني والوثيقة بسهولة ،الا ان الكثير من المعلومات المغلوطة وغير الصحيحة، والتي لا يعرف المطلع عليها حقيقتها، تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي مما يؤثر على البحث العلمي الدقيق. ومع ذلك فلكل زمان ولكل جيل عاداته وتقاليده واساليبه التي فيها الغث والسمين.
الحيادية في تدوين التاريخ
* رأيك في مقولة (المؤرخ قاضي الاموات)؟
ضحك د. الادهمي قبل ان يجيب:
ـــ نعم، ان المؤرخ هو قاضي الاموات، ولذلك فان مهمته أصعب بكثير من قاضي الاحياء. وعليه فان المؤرخ يجب ان يتصف بالموضوعية والحيادية والشجاعة في تدوين التاريخ.
وان ينقب ويبحث عن الحقيقة كما وقعت او أقرب ما تكون عليه عندما وقعت، ومع ذلك فان مناهج الكتابة في التاريخ تختلف من مدرسة الى اخرى، فالمنهج القومي في كتابة التاريخ هو غير المنهج الماركسي، والمدرسة الالمانية في فهم التاريخ هي غير المدرسة الفرنسية او الانكليزية. فكل له رؤيته في تناول الاحداث والوقائع التاريخية، ومن هنا يأتي التباين الذي يجب ان لا يؤثر على الحقيقة التاريخية وإن اختلف المنهج.
الماضي والمستقبل
* ماهي انطباعاتك عن الواقع الجامعي في العراق حاليا؟
ــــ انا حاليا متقاعد ولست على احتكاك مباشر مع الجامعات العراقية، ولذلك لا يمكنني الحكم الدقيق، الا ان ما اقرأه واسمعه عن التزوير والسرقة وهبوط مستوى البحوث في الجامعات الاهلية خاصة وبعض الجامعات الرسمية يؤلمني حقا.
لقد اصبحت شهاد الدكتوراه والماجستير تباع وتشترى، وأصبح البحث العلمي بعيد عن العلم، فصار مجرد كتابات سطحية للترقية او النشر. ولكن هذا لا يعني عدم وجود اطاريح وبحوث رصينة اطلع عليها بين حين وآخر.
* حضارة وادي الرافدين.. الى اين نحن منها اليوم؟
– حضارات العراق هي أقدم الحضارات في العالم وانسان بلاد الرافدين هو اول من اخترع الكتابة وشيد أرقي الحضارات في أكد وبابل وآشور في التاريخ القديم، واصبحت بغداد في العصر العباسي منارة العلم وطغت اللغة العربية على اللغات الاخرى في العلوم والتجارة.
وكما قالت المؤرخة الالمانية زنغريد هونكة في كتابها “شمس العرب تسطع على الغرب”، ان العرب المسلمين شيدوا حضارتهم الراقية في وقت كانت اوروبا تعيش في دياجير الظلام، فكانت الحضارة العربية الاسلامية في بغداد ودمشق والقاهرة والاندلس منارة اضاءت طريق النهضة الاوربية.
أما الان فقد أصبحنا نتغنى بهذا الماضي التليد فقط، ونحن نعيش حالة نكوص الامة العربية وتدهورها. ومع ذلك فان مثل هذه الحالة قد مرت بها الامة لتنهض كالعنقاء من جديد. ولابد لنا ان نستحضر الان تاريخنا المشرق في الاعلام والتعليم ليكون حافزا للجيل الجديد كي ينهض بأمته على طريق المستقبل المشرق.
* ماهي المحطات التي غيرت مجرى حياتك؟
ــــ المحطات التي غيرت مجرى حياتي هي قراري بالدخول الى كلية الآداب بدلا من كلية الحقوق، فانتقلت بإرادتي من قسم الفلسفة الى قسم التاريخ عام 1962، والثانية عندما دخلت عالم التلفزيون عام 1973، والثالثة عندما حصلت على الماجستير عام 1972 لأترك التعليم الثانوي الى الجامعي، والرابعة عندما حصلت على الدكتوراه من جامعة لندن عام 1978.
متى بكى الادهمي؟
* دوما في حياة كل منا مواقف نشعر فيها بسعادة وأخرى بالحزن.. فما الذي يسعدك وما الذي يحزنك؟
ــــ اقولها لك ولأول مرة بكيت واحزنتني نكسة حزيران عام 1967، ووفاة عبد الناصر، واحتلال العراق عام 2003. ولا شك وفاة والدي ووالدتي وابنتي دينا.
وفرحت عند نيلي الشهادة العليا، وحين رزقت بأول اولادي. وعندما تزوج ولدي احمد الادهمي الذي دخل الان ميدان الاعلام بجدارة، وتلك فرحة مضافة لأنه قد تسلم الراية مني على طريق تقديم البرامج التلفزيونية.
* لا يمر وقت على حضرتك دون كتابة وتدوين.. فما هو الكتاب القادم؟
– كتابي المقبل هو الجزء الثاني من (بغداد التاريخ) الذي يتناول الفترة 1918-1932 بعد ان تناولت في الجزء الاول الفترة من تأسيس بغداد على يد الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور الى عام 1917حينما احتلها البريطانيون في 11 آذار من تلك السنة.
حوار هادىء وتاريخي مع رجل التاريخ… سلمت الأنامل الاي سجلت للتاريخ هذه الأسطر…