ذراع الثرثار – الفرات وشحة المياه في وادي الرافدين

يتميز العسكريون في العراق عن غيرهم بخاصية فريدة وهي أن الجيش يعتبر أن من بين واجباته حماية المدن من أخطار الفيضان الذي كان يشكل كابوسا مرعبا لبلد لم يلتفت إلى إقامة السدود حتى تم إقرار خطط مجلس الإعمار العملاقة، وكان الضباط كلما علت رتبهم، كلما تنوعت مهماتهم واهتماماتهم العامة، فقد كان الجيش العراقي شديد الاهتمام بما يصادفه العراق من فيضانات قبل أن يقيم سدودا مختلفة لدرء الفيضانات على دجلة والفرات وربما يعتبر ذلك واجبا يتعلق بالأمن القومي، كان ذلك قبل أن تقيم تركيا وسوريا سدودا على النهرين، حجبت جانبا مهما من حقوق العراق في مياهه وخصص لذلك نوطا يحمله الضباط.
في النصف الأول من عقد السبعينيات ضرب العراق أقسى الفيضانات لنهر دجلة، وكان خبراء الري مطمئنين إلى أن سد الثرثار الذي أقيمت منشآته فوق دجلة في سامراء، ويسمح لكمية مدروسة من المياه أن تذهب إلى أسفل السد في مجرى نهر دجلة بما لا يشكل تهديدا لحوض النهر وصولا إلى بغداد ثم الكوت فالبصرة، أما الكمية الفائضة فيتم تحويلها عبر ناظم الثرثار إلى قناة قوسية يبلغ طولها نحو 60 كيلو مترا لتذهب بالمياه إلى منخفض الثرثار الطبيعي الذي يمتد شمالا حتى يصل إلى جنوبي الحضر، ويستوعب هذا المنخفض كمية تقرب من 84 مليار متر مكعب.
كان الأب القائد الرئيس الراحل أحمد حسن البكر رحمه الله يتابع أخبار ذلك الفيضان العاتي من مكتبه في القصر الجمهوري مواصلا الليل بالنهار بلا نوم مع المعنيين في مديرية الري العامة ومع المحافظين، على طول المجرى، وفي أحدى المكالمات مع محافظ الأنبار، قال له المحافظ، سيدي في حال استمرار ملء خزان الثرثار، فإن مدينة الرمادي ستتعرض لاحتمال الغرق لأن مياه خزان الثرثار ستطغى عن حوضه وتنحدر نحو أراضي محافظة الأنبار.
أصدر الرئيس البكر رحمه الله الأوامر اللازمة للتصرف بموجب ملاحظة محافظ الأنبار، وأعطى التعليمات للجهات المسؤولة في ناظم الثرثار بتحديد كميات المياه المحولة إلى المنخفض، ولكن البكر المعروف بنباهته ودقة تعامله مع كل ما يسمع ويرى، فإن ما قاله المحافظ عن تهديد مياه الثرثار في حال وصولها إلى مستوى معين، لا بد أن يُدرس بأعلى درجات الاهتمام، ويستدعي النظر من قبل اختصاصين في أمور الري، وركز على معلومة واحدة وهي معرفة كم ترتفع الأرض والمياه في منطقة الثرثار عن مستوى مدينة الرمادي، وإذا كان الأمر بهذا الشكل فلماذا لم يفكر من سبقنا في فتح قناة من الثرثار لتصب في الفرات من أجل تحقيق أكبر مرونة في الموازنة بين دجلة والفرات، والانتفاع من الخزين الهائل والميت في منخفض الثرثار والذي تزداد ملوحته مع الوقت نتيجة التبخر، أو يتسرب كثير منه إلى باطن الأرض، أمرّ على الفور بتقديم الدراسات الفنية بشأن انسيابية الأرض من حوض دجلة إلى حوض الفرات لغرض فتح قناة تأخذ مياهها من خزان الثرثار إلى نهر الفرات، ولماذا لم تخطط الشركة المنفذة لهذا المشروع بكل هذه الاحتمالات؟
المهم عكف المهندسون والجيولوجيون والمساحون على إعداد دراساتهم العاجلة لهذا المشروع الاستراتيجي والحيوي لمستقبل العراق، كيف لا وهي دراسة مطلوبة من رئيس البلاد الذي كان يتابع بدقة ما يأمر به، وفعلا لم تمض مدة طويلة على قيام اللجان المتخصصة بدراساتها الميدانية، حتى توصل الخبراء إلى إمكانية نقل المياه من الثرثار إلى نهر الفرات، وأن أفضل نقطة لشق القناة الإروائية هي أن تبدأ من جنوبي غربي خزان الثرثار وتتجه الى الجنوب الغربي نحو ضفة الفرات الشرقية قرب مدينة الفلوجة.
صدرت الأوامر بالمباشرة بالتنفيذ المباشر من جانب دوائر وزارة الزراعة وخاصة مديرية المعدات المكائن والمعدات الثقيلة ومديرية الري العامة، بعد أن تم اعتماد التخصيصات اللازمة والمقدرة في الدراسة، وعندما بوشر بالحفر، فوجئ المهندسون بأن الأمر أكبر من طاقة المعدات التي يمتلكها العراق في ذلك الوقت، لذلك بوشر بالاتصال بالجانب السوفيتي بهدف توقيع عقد مع إحدى الشركات السوفيتية الكبرى المتخصصة في هذا المجال، فوجد السوفيت بعد فحص التربة بأنها بحاجة إلى معدات ثقيلة وتعمل بالطاقة الكهربائية “الضغط المتوسط”، لأنها أرض صخرية قاسية، ولأن المشروع جزء من خطة استراتيجية تشمل تفريغ دوري لخزان الثرثار، ودعم لنهر الفرات المعروف بعد انتظام موارده المائية بسبب إقامة تركيا لثلاثة سدود هي كيبان وقرة قابا وكمال أتاتورك، وكذلك إقامة سوريا لسد الطبقة وتلكؤ الاتحاد السوفيتي في بناء سد حديثة في العراق.
وبوشر بالعمل في مشروع قَدح في ذهن الرئيس البكر ولم يفكر به المهندسون قبل ذلك، وأقيمت خطوط الكهرباء وجيء بالمعدات الثقيلة حتى تم انجاز المشروع في وقت قياسي، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تم التخطيط لإقامة ذراع الثرثار دجلة الذي يتفرع عن ذراع الثرثار الفرات.
هكذا تعامل البكر مع ملاحظة محافظ الأنبار، ولم يتوقف عند اتخاذ القرار المناسب لوقف تدفق المياه إلى منخفض الثرثار فقط، بل تفتق ذهنه المحب للعراق فأصدر أمرا أبعد من ذلك بكثير، وقد وضع بذلك تصورا كاملا لحل ناجح لمشكلة المياه في العراق.
ترى كم نحن بحاجة إلى من يتعامل مع ما يطرح أمامه من مشكلات بوعي استراتيجي وليس بحل آني فقط.
رحم الله الأب القائد أحمد حسن البكر الذي أعطى الزراعة اهتماما استثنائيا كما اهتم ببقية الجوانب التنموية.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى