لعل ما يميز الكتاب الذي أصدره مؤخرا الصحفي والباحث البغدادي سعدون الجنابي عن شارع الرشيد انه أصبح برأي الكثيرين مرجعا للباحثين عن تاريخ ودور هذا الشارع في حياة البغداديين.
و”رحلة في ذاكرة شارع الرشيد” هو عنوان كتاب البغدادي سعدون الجنابي هو جولة تأخذك إلى تلمس أمكنة ومعالم شارع بحجم مدينة؛ لأنه ليس ككل الشوارع، إنه رمز ارتبط بتاريخ مدينة ملأت الدنيا وشغلت الناس، إنها بغداد عاصمة الرشيد الذي سمي أشهر وأقدم شارع فيها باسمه، وغدا عنوانا وتوأما لها في مشهد يوثق تاريخ مدينة وشارع كانا شاهدين على أحداث العراق منذ أكثر من 100 عام.
وعندما نتحدث عن شارع الرشيد فإن المؤلف بحسه الصحفي والبغدادي حاول أن يضع ما تختزنه ذاكرته من معلومات ووثائق للرأي العام للتعريف بأهمية الشارع للنشء الجديد استندت لذاكرة يقظة لترفع غبار النسيان والإهمال التي طاولت معالمه التراثية والتاريخية في مشهد يعكس حال العراق الجديد.
وفي التفاصيل يحدد المؤلف سعدون الجنابي مسار شارع الرشيد ومثاباته، وهي المسافة الممتدة التي تبدأ من بابل المعظم حتى ساحة الرصافي، ومن هذه الساحة إلى منطقة رأس القرية، ومنها إلى منطقة السنك، ومنها إلى محطته الأخيرة عند محال جقمقجي، حيث ازدحمت على جانبي الشارع في عز شهرته معالم ورموز تاريخية وتراثية ما زالت عالقة في ذاكرة العراقيين.
فشارع الرشيد ـ كما يشير المؤلف ـ شهد مجمل الأحداث السياسية التي أسهمت في ولادة الدولة العراقية، كما شهد أيضا مرحلة الاحتلال البريطاني، وكان شاهدا على الصراع السياسي حينذاك الذي تحول إلى شارع يضج بالفعاليات الفنية والثقافية والتاريخية والآثارية، وأصبح شارع النخبة من أدباء وشعراء وسياسيين لما احتواه من مقاهٍ وبيوتات ثقافية حولت الشارع إلى خيمة للمبدعين ومكان لعرض إبداعاتهم.
ويذكر المؤلف أبرز معالم شارع الرشيد التي بقيت في ذاكرة رواده بعد أن فقد بريقه وشهرته وتراجع أهميته بعد الإهمال والخراب الذي لحق بمعالمه، فيبدأ بجامع الحيدرخانه والشورجة وخان مرجان وعقد النصارى ورأس القرية وشارع المتنبي وسوق الصفارين وباب الآغا وحافظ القاضي والاوروزدي باك وسينمات عدة على جانبي الشارع، ومقاهي البرازيلية وحسن عجمي والبرلمان والزهاوي ومطعمي تاجران وعمو الياس، كما يتفرع من شارع الرشيد شارع النهر المحاذي لنهر دجلة.
ويصف المؤلف شارع الرشيد بأنه يقع بين بابين هما باب المعظم، الذي كان يسمى باب السلطان من الشمال، وباب الشرقي، الذي كان يسمى باب كلواذى أو باب البصلية من الجنوب، وكأنما أريد لمن يستخدم الشارع أن يدخل من باب ويخرج من باب آخر، فمسار الشارع امتد بين هذين البابين، ومساره نفسه ينساب مع نهر دجلة، الذي تعبر مياهه ضفاف بغداد من الشمال إلى الجنوب.
ويضيف أن شارع الرشيد يمتد إلى مسافة أربعة كيلومترات من الشمال إلى الجنوب وبالعكس، ويقطع الشارع أربعة جسور: الشهداء، الأحرار، السنك، والجمهورية. وتقع على امتداد الشارع أربعة جوامع كبيرة هي: الأحمدية، والحيدر خانه، سيد سلطان علي، وحسين باشا. ويضم الشارع أربعة أسواق تاريخية هي: الهرج، السراي، الصفافير، والشورجة. وعلى امتداد الشارع تقع أربعة بنوك أساس هي: الرافدين، المركزي، الرشيد، الزراعي، ولمحلة المربعة وهي أحد المحلات البغدادية التي تقع عند منتصف شارع الرشيد وتحتل مكانة عند المؤلف، فقد ولد فيها وعاش طفولته وشبابه فيها، وحاول أن يعرض ما اختزنته ذاكرته عن هذه المحلة ومعالم الشارع وشخوصه ومعالمه.
وشارع بهذه المكانة والدور في حياة العراقيين يعاني الإهمال وعزوف رواده أصبح شارعا لصناعات بدائية ومكبا للنفايات غيرت وجهه، ونزعت عنه مسحته الحضارية والثقافية كمعلم من معالم بغداد.
وإزاء ما يعانيه هذا الشارع الذي كان يضاهي شوارع عالمية في حداثته وجماله في زمانه، هل طوى الزمن شارع الرشيد كما طوى معالم أخرى في بغداد؟ أم أنه سيبقى عالقا بذاكرة العراقيين كشاهد على زمن جميل ما زالوا يتغنون به افتقدوه؟
863