سفرة قصيرة مع الذكريات

عملت في الإذاعة والتلفزيون بصفتي السياسية من يوم 17 تموز 1968 إلى 31 كانون الثاني 1975، باستثناء فترات قصيرة، وخلال وجود الأستاذ محمد سعيد الصحاف قائدا لهذا الجهاز الإعلامي الأول في العراق، نشأت بيننا علاقات أخوة وصداقة متينة سياسيا ومهنيا وشخصيا بمنتهى الاحترام والتفاعل، إذ عملت معلقا سياسيا ثم مديرا للأخبار في المؤسسة، توصلت إلى قناعة بأن الصحاف أكفأ من شغل وظيفة مدير عام الإذاعة والتلفزيون، إذ لم يَقصرْ مهمته على جانب الإدارة السياسية لأهم مرفق إعلامي في أي بلد من بلدان العالم الثالث، أو في تفهّم الرسالة الإعلامية السياسية للوظيفة التي أنيطت به بثقة عالية من القيادة السياسية في البلد، بل تعّرّف عن قرب وبكل دقة على التفاصيل الفنية والهندسية في المرسلات الإذاعية والتلفزيونية الاستوديوهات، ولم يَغفل حقيقةَ أن الإعلام يرتكز للوصول إلى المتلقي ويحقق جزءً من هدفه بإيصال رسالة النظام السياسي، عبر أدوات كثيرة بعضها متصادم مع بعض، منها الحديث الديني ومنها العمل الفني بكل صوره من أغنية ومسلسل تلفزيوني ومسرحية، ولهذا كانت علاقاته مع الوسط الفني في أجلى صورها وأرقى درجاتها، وهذه حقيقة قائمة وهي أن من يعمل في هذا الجهاز السياسي الثقافي الإعلامي وبأي صفة كانت، يجب أن يتهيأ لعقد علاقات صداقة مع كل الوجوه التي يمكن أن تظهر على شاشة التلفزيون ابتداءً من قرّاء القران الكريم وعلماء الدين إلى المثقفين والمفكرين الذين يُطلون على الشاشة دوريا أو في أوقات متقطعة، وأخيرا مع المطربين والفنانين بمختلف اختصاصاتهم، وهذا الأمر انطبق عليّ خلال وجودي في الجهاز الحساس هذا، واليوم أحاول أن أنقل شيئا مما عشته فيه.

عطر وبصمة وراثية لرائحة الأرض
عند سقوط المطر تستقبله الأرض بشوق وشغف وكأن بينهما عشقا متجددا أبد الدهر، وللمطر عند عناق الأرض رائحة شغلت الشعراء منذ القِدم وما زالت الأسئلة تتزاحم عن سر هذه الخاصية لكل أرض تستقبل المطر، ولكن لرائحة الأرض عند نزول أولى قطرات المطر في “طويبة” حكاية أخرى ولا تشبهها رائحة أخرى إلا في بغداد، وكأنها تحملDNA” ” أي البصمة الوراثية للحمض النووي الذي يميز كل إنسان عن سواه مع أن صور بني البشر واحدة وأنهم جميعا أبناء تسعة شهور، فتربة طويبة لها حمضها النووي الذي لا يشابهه تراب آخر، وله رائحة ألهمتني حبا متدفقا منذ أربعينيات القرن الماضي ولما تزل،.
عرفت الكثير من العطور الباريسية الراقية مثل عطر آرامس والذي عرفته أول مرة عندما أهداني الفنان حسين نعمة عندما كنا أصدقاء عام 1970 قنينة منه، وما زلت أحتفظ بقليل من عطرها فعندما عدت من الأسر عام 2002 وجدت أن زوجتي احتفظت لي بكل أشيائي الجميلة.
كما عرفت عطر تاباك الألماني عام 1970 الذي أهدت لي منه صديقةْ ألمانيةٌ قارورة بعد انتهاء دورة إعلامية في موضوع ” الدعاية المضادة” في تلفزيون ألمانيا الديمقراطية، وقالت لي هذه هدية ثمينة وهي من صنع ألمانيا الغربية وليست صناعة ألمانيا الديمقراطية ولكنها ألمانية على أية حال وهي أرقى من كل العطور الفرنسية، وأهديها إليك تقديرا واعتزازا، وما زلت أحتفظ بها أيضا يا لها من مشاعر وطنية حتى في التعاطي مع صناعة العطور واستعمالها، ليتنا نصاب بقليل من عدوى حب الوطن على الطريقة الألمانية، مع ذلك فهذه العطور الثمينة والراقية لا ترقى في رأيي إلى رائحة الأرض في طويبة وبغداد عند سقوط حبات المطر الأولى على أديم أرضهما، فهل من شركة لصناعة العطور تصنع عطرا برائحة المطر عندما ينزل على الأرض.
لا أدري لماذا لا يشابه ترابُ كل مدن العالم ترابَ بغداد التي يمر بها دجلة بعد أن مرّ بطويبة، نعم هناك رائحة للمطر تتقارب مع بعضها ولكن هناك بصمة وراثية لكل أرض تختلف عما سواها، لقد حباني الله تعالى برؤية كثير من دول العالم تبدأ من اليابان والصين شرقا إلى كندا والولايات المتحدة مرورا بكل ما بين آسيا وأمريكا الشمالية من دول، كلها رأيت المطر يهطل فيها بغزارة ولكنني مع كل زخة مطر أحّن إلى بغداد وطويبة وأتساءل عن السر الذي أودعه الله فيهما.
نهر دجلة عندما يأتي متثائبا قد أتعبه طول السفر وأراد أن يستريح قبيل المغيب ربما ليؤدي صلاة العصر والمغرب على شاطئ طويبة، عندما يصل طويبة تنتشر في الأجواء رائحة عطر لو تجمعت كل مصانع عطور العالم لتصنع مثلها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، ولكن رب العالمين خص بها دجلة عندما يستدير من الضلوعية ليتجه عبر طويبة إلى الاحباب ويؤدي مراسم العشق ذاتها عند شواطئ أبي نؤاس في رصافة بغداد.
على كل حال عرفتُ الفنان حسين نعمة عام 1970 وربما قبل ذلك، لما جاء وسجل أغنية “يا نجمة” والتي حظيت بقبول شعبي واسع واهتم بها الرئيس أحمد حسن البكر رحمه الله وأحسن إليه بحكم اهتمامه بكل ما من شأنه أن يجعل العراق في الصورة التي يريدها له، فاهتم بالأغنية بقدر حرصه على دفع الكفاءات العراقية في العلوم والفنون والآداب فأمر بتكريم حسين نعمة وفتح أبواب الإذاعة بوجهه، كان المرحوم البكر وقيادة البعث في متابعة متواصلة للأفكار والوجوه الجديدة على المستوى الفني والأدبي والرياضي والعلمي. وكان البكر يأمر بأن تُفتح لهم الأبوابُ المؤصدة.
وبعد هذه الأغنية سجل حسين نعمة عدة أغاني لاقت قبولا أيضا، لكن أغنيته التي يبدأها بموال “يا عيني عليمن ربيّة ولا جية بعد منهم” ثم أتبع الموال بأغنية “الحلم” التي كتبها قيس لفتة مراد على ما أظن، والتي تقول “يا حلم الما يمر بعين ولا يخطر على النايم” لاقت في نفسي صدى خاصا وكذلك في الشارع العراقي، كنا نجلس نحن ثلاثة من العاملين في الإذاعة والتلفزيون وهم المذيع ذو الصوت الرائع المرحوم عادل عبد الجليل سعودي، ووليد عمر العلي وأنا مع الفنان حسين نعمة ويبدأ عادل عبد الجليل بترديد أغنية “الحلم” يقول له حسين نعمة بلهجة أهل الناصرية المحببة، “جا أخوية ليش ما صرت مغني”؟.
وعندما أقامت نقابة المعلمين في الكويت مهرجان دعم المقاومة الفلسطينية في آذار 1970، قرر وزير الثقافة والإعلام في ذلك الوقت الأستاذ صلاح عمر العلي مشاركة العراق في المهرجان بالفرقة القومية للفنون الشعبية والتي كان اسمها فرقة “الرشيد للفنون الشعبية” وأناط بي رئاسة الوفد الثقافي والفني العراقي، وقال لي إن استطعت أن تضم إلى الوفد مجموعة من المطربين العراقيين بهدف تعزيز المشاركة شرط ألا تتحمل الوزارة أي تكاليف مالية، بدأت الاتصالات بالفنانين من أجل إقناعهم بالمشاركة في الفعالية مع إشعارهم بعدم دفع أجور لهم عن المشاركة، وفوجئت بحماسة عالية بمجرد ذكر كلمة “دعم المقاومة الفلسطينية” بدأت بزيارة للمطربة عفيفة اسكندر في شقتها في شارع أبي نؤاس فوجدتها شقة أنيقة جدا تعكس ذوقا فنيا عاليا، عندما وصلت وجدت في بيتها عدد من العجائز اللاتي تقوم على خدمتهن ممرضة لأنهن من فقيرات بغداد والموصل اللائي يمتّن لها بصلة جيرة أو قرابة وتنفق عليهن وعلى معيشتهن ومراقبة علاجهن، وبعد جلسة مجاملة قالت “قهوتك استاذ نزار”؟، قلت لها أنا شايوي المزاج وأحب القهوة المرة في مجالس العزاء فقط، وبعد شرب الشاي قالت تفضل ما جئت به ستخرج به بإذن الله، قلت هناك مهرجان لدعم المقاومة الفلسطينية سيقام في الكويت وأتمنى أن تشاركي فيه، قالت من فورها سأشارك ومجانا ولكن لي رجاء صغير قلت لها تفضلي، قالت “أريد عازف الكمان الأستاذ كريم بدر وأنا اتكفل بكل شيء”، وعدتها خيرا، ذلك أن كريم بدر لبناني وأمر دخوله إلى الكويت سيضيف جهدا خاصة بالتأشيرة، وخرجت منها وأنا ممتن لتفاعلها مع هذا النشاط القومي.
بعد ذلك رأيت المطرب حسين نعمة خلال وجوده في الإذاعة والتلفزيون، وبمجرد أن عرضت الفكرة وقلت له إن الفنان العراقي له دور وطني في الدفاع عن قضايا العراق، وقومي على مستوى الوطن العربي، من دون البحث عن مردود، وشرحت له فكرة السفر إلى الكويت، وما يمكن أن تسهم في توسيع مساحة شعبيته، قال لي أجئتني مستفسرا أم مبلغا؟، ولما عرفت تحسسه من فكرة أن أساله “هل توافق أو لا” قلت له لا هذا ولا ذاك بل جئتك آمرا أن تتهيأ للسفر معنا قريبا قال وماذا عن جواز السفر وتأشيرة الدخول، أخبرته بأن جواز سفر جماعيا سيتم استخراجه لكل أعضاء الوفد مع ضمان تأشيرة الدخول في نقطة الحدود”، قال وأنا جاهز من الآن، ثم اتصلت بالفنان فاضل عواد الذي وافق على المشاركة بأي جهد عراقي لدعم العمل الفدائي الفلسطيني، وكذلك فاتحت المطرب ياس خضر فلم يتردد في المساهمة، غادر الوفد إلى البصرة بحافلة إلى البصرة ومنها إلى الكويت، بعد أن انجزنا معاملة مغادرتنا للمعبر العراقي ودخلنا في أرضٍ سُلخت من العراق، عند نقطة المطلاع البعيدة عن نقطة الحدود في صفوان بعشرات الكيلومترات.
كانت فرصة أن يتعرف أبناء الكويت على الوجوه الجديدة من الفنانين العراقيين، وأقام الفنانون العراقيون عدة فعاليات وفقا للبرنامج الذي أعدته نقابة المعلمين الكويتية، وأقام السفير العراقي المرحوم مدحت إبراهيم جمعة دعوة عشاء كبرى على شرف الوفد العراقي، أما القنصل العراقي السيد أسامة القيسي فقد سهل للفرقة إقامة في فندق واحد بالتنسيق مع الجهة المضيفة، أما أنا فقد أقمت في فندق بريستول وفي طابق آخر أقام الفنانون الذين أذكر منهم الأربعة فقط.
أعود إلى قصة عطر أرامس، بعد فترة قصيرة من إقامته في بغداد عانى حسين نعمة من مشكلات كثيرة لإحساسه بالغربة في البيئة البغدادية وبعلاقاته مع الوسط الفني ذلك أن أصحاب المهن المتشابهة يعيشون حالة من التنافس غير المشروع فيما بينهم نتيجة الخوف من مزاحمة دخول إي هاوٍ أو محترف جديد، حسين القادم من الناصرية إلى بغداد المختلفة عنها بطابعها المنفتح العلاقات الاجتماعية، فأدخله ذلك في حالة انعدام وزن كما كان يقول لي، وعانى من متاعب صحية بعضها بدني بحيث رقد في مستشفى فيضي لعدة أسابيع من دون أن نعرف بحقيقة ما جرى له، كنت أسال عنه باستمرار ولكن ولا مجيب، في أحد الأيام جاءني الملحن المعروف طالب القرغولي، وقال لي إن حسين في المستشفى ويسلم عليك، وحكى لي قصته كاملة، ومن فوري ذهبت إلى الأستاذ محمد سعيد الصحاف وطلبت منه أن تتحمل المؤسسة تكاليف مكوث حسين في المستشفى وكامل نفقات العلاج، لم تتأخر موافقة أبي زياد “الصحاف” على الفكرة فهو السباق لمد يد المساعدة للوسط الفني، وأخذت كتابا رسميا إلى إدارة المستشفى بهذا المضمون، وأخذت له باقة ورد باسم المؤسسة، وعندما دخلت غرفته كاد أن يقفز من سريره، قال ماذا جاء بك ومن أبلغك؟ قلت بلهجة واضحة ليس الآن وقت هذا الحديث بل وقت التزامك بالتعليمات الطبية حرفيا فقد أبلغني مدير المستشفى بأنك تعاني من تشمع في الكبد وإن لم تتوقف عن بعض عاداتك فإنك معرّض للموت المؤكد، وبعد مدة خرج حسين من المستشفى مما عزز علاقات الصداقة بيننا، لكنني لم استمر في عملي في الإذاعة والتلفزيون إذ تم نقلي إلى وظيفة قائممقام لقضاء الشامية، وفي الذكرى الثانية لثورة 17 تموز طلب مني محافظ القادسية المرحوم علي هادي وتوت التدخل عند الأستاذ الصحاف للقبول بإرسال مجموعة من المطربين لإقامة حفل في المناسبة، وأخبرني أنه اتصل بالسيد الصحاف الذي أشار إلى أن هذه المناسبة فرصة لكثير من الجهات لإقامة احتفالات فيها، والأمر لا يخضع لسلطته بل لرغبة الفنانين أنفسهم، اتصلت بأصدقائي في المؤسسة وتمكنت من إيجاد بعض الفراغات بين أنشطة كبيرة تقيمها الوحدات العسكرية بالمناسبة والوحدات الإدارية القريبة من بغداد، وأقيمت فعاليتان الأولى في النادي العسكري في الديوانية والثانية في نادي الموظفين في الشامية، وأنيطت مهمة الإشراف على فعالية الديوانية بمدير البلدية وكذلك في الشامية بالصديق المرحوم السيد تقي الياسري مدير البلدية ومسؤول القضاء الحزبي، وعندما زارني حسين نعمة في الشامية كان قد جلب لي الهدية بمناسبة تعييني بوظيفتي الجديدة، وهي قنينة عطر من نوع أرامس.
وعندما انتهت مهمتي في الإدارة وعدت إلى الإعلام استبشر حسين نعمة بعودتي، ومرت أيام العمل في الإذاعة والتلفزيون وأشاهد حسن نعمة في كافتيريا الإذاعة الملتقى المفضل للعاملين في المؤسسة ونتحدث في مختلف الأمور العامة، وأحيانا كان يشاركنا جلساتنا الملحن كمال السيد وهو من الناصرية أيضا وكان الحديث يتناول قضايا الفن والفنانين وكان من الصعب عليّ أن اخوض في أعماق أحاديثهم ولا أسمح لنفسي أو أن أحشر نفسي في شؤونهم وخلافاتهم مع بعضهم ولكنهم كانوا يريدون تدخلي أحيانا في حل بعضها، مرة قال لي حسين نعمة إن الأستاذ الصحاف قد حجب أغنية له سجلها لإذاعة بغداد وهي أغنية “ابن آدم” من دون معرفة السبب علما بأنه تسلم أجور التسجيل وكذلك المؤلف والملحن، وكلما سأل عنها قيل له بأن القرار قد اتخذ من جانب الصحاف، فاتحت الأستاذ الصحاف بشأن هذه الأغنية، سألني هل الحزن صناعة عراقية أو قدر مفروض علينا إلى الأبد؟ وهل علينا أن نرضخ لهذا الموروث أم أن علينا أن نصنع شيئا من أجل التغيير في مجال عملنا، نشر الثقافة والفن الجميل الذي يصنع الفرح، نريد إعادة صياغة الذائقة العراقية من أجل إشاعة أجواء الفرح، تأتي هذه الأغنية وكأنها موكب جنائزي، ألححت عليه أن يطلقها ولكنه تمسك بموقفه، وعندما ألححت لإطلاق هذه الأغنية بالذات سألني هل سمعتها من قبل؟ قلت له لا ولكن حسين وبعض الأصدقاء طلبوا مني التدخل معك بشأن السماح لها، قال حسنا اسمعها وأعطيك حق اتخاذ القرار، كانت الأغنية محجورة بأمر خاص من المدير العام ولا يُسمح بسماعها من دون إذن منه، وهذا أمر لن يجرؤ أحد على عصيانه هكذا كانت تقاليد عملنا، طلبت منه أمرا بذلك فاتصل بمدير مكتبة الموسيقى وأبلغه بإسماعها لي، وذهبت إلى المكتبة وسمعت الأغنية أكثر من مرة وتسللت إلى مسامعي بانسيابية نادرة، وإذا بها أغنية حزينة رائعة تحكي تاريخا من تقاليد الحزن العراقي، خرجت من المكتبة وذهبت إلى مكتب الصحاف مباشرة وأعطيته رأيي بإجازة الأغنية وبعد تفكير طويل أمر بذلك، كنا في عملنا بحاجة إلى من يعطي رأيا جريئا حتى إذا لم تكن له منفعة فيه ويتحمل مسؤوليته، وبعد إذاعتها لأول مرة انهالت طلبات المستمعين عليها لعدة أيام.

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى