ضدان لا يلتقيان – طالب سعدون
هل تجتمع النار والماء ..؟ سؤال إفتراضي يضرب لتنافي الشيئين .. فيقال (هذا وذاك لا يجتمعان ) ..
إذا كان ممكنا أن تجتمع النار والماء ، فيمكن أن يجتمع الفساد والتنمية معا على أرض واحدة دون براكين مدمرة !! ، لكن التنمية والفساد ضدان لا يجتمعان .. فلا مكان للتنمية الحقيقية في بلاد يعم فيها الفساد، إلا بالقضاء على هذه الأفة الخطيرة …
إستحالة جمع النقيضين تجعل مهمة حكومة الدكتورعادل عبد المهدي في إحداث عملية تنموية مسألة صعبة إن لم تكن مستحيلة إن لم تبدأ بالقضاء على الفساد بكل إنواعه – الاداري والمالي أولا لتضمن النجاح في هذا المسعى الكبير بعد أن تحقق البداية السليمة لمسير طويل محفوف بالمخاطر والصعوبات ..
وبعد أن أكملت الحكومة تشكيلتها الوزارية – باستنثناء وزارات ليس لها علاقة مباشرة بالتنمية الاقتصادية – يكون من حق المواطن أن ينتظر شيئا إيجابيا منها يناسب (مدة الولاية) لتحسن وضعه المعاشي والاقتصادي والخدمي والوطني ، ويتطلع الى جواب شاف لسؤال تردد كثيرا على مسامعه بعد تكليف عبد المهدي بتشكيلها لاسباب ، من بينها أن الكثيرين ، بما فيهم متخصصون ، قد وجدوا فيه ( المنقذ ) للعملية السياسية التي فشلت في تحقيق تنمية حقيقية ، بسبب رؤيته الاقتصادية وشهادته الاكاديمية في هذا الاختصاص المهم ، فيما عده البعض الأخر أنه الفرصة الأخيرة لها.. لذلك يكون التقويم المنصف للحكومة على أساس بناء إقتصاد قوي ومتين ومتعدد الموارد …
وبعد أن وافق عبد المهدي على هذه المهمة الصعبة يكون قد قبل الرهان عليه ، ليكون رقما (إستثنائيا) ، وصعبا في تسلسل الحكومات لتغيير هذا الواقع الصعب وتحمل تبعاته ، بما فيه عبء تراكم السنين العجاف ، وبخلافه يكون رقما عاديا ، له نصيبه من (خطايا) العملية السياسية ، وتكون المراهنات عليه في غير محلها ..
فهل يتحقق له ما يريد ..؟..
- نتمنى ..
ونعود الى السؤال وهو : هل لهذا لمصطلح (التنمية) من نصيب ليعود الى التداول وتضع هذه الحكومة اللبنة الأولى له في عهد ها ، ونسمعه يتردد على لسان المعنيين به ، ويكون ( شعار المرحلة ) في الاعلام والشعب بعد أن أصبح غريبا أمام سيطرة (مفردة الفساد) ، أو من المستحيلات في قاموس الادارة على مدى السنوات الماضية ، وترى فعله على الارض ، وتكون هذه الحكومة القاعدة التي ينطلق منها الى المستقبل ؟.. وهل تعود عجلة الانتاج بمختلف فروعه الى الدوران من جديد بعد توقف قهري يمكن أن تعرف أثره الواضح من نسبة مساهمات الوزارات المعنية بالتنمية والقطاع الخاص من خلال حجم المعروض السلعي قياسا بالمستورد ، ويظهر تأثيرها في الموازنة بارتفاع نسبة التخصيصات الاستثمارية ، وتوفير مبالغ مناسبة للوزارات الخدمية التي تراجعت في أداء اختصاصاتها المختلفة لعدم كفاية تخصيصاتها ؟.. .. وهل يتمكن من تخفيض نسبة العجز في الموازنة إن لم يستطع ( شطبه ) نهائيا ، أم يكون عمل حكومته كسابقاتها ليس أكثر من (محاسب) يجمع وارد النفط ويوزعه رواتب على الموظفين التي تضخمت الى صورة خيالية يستعصي على الاقتصاديين فهمها ، خاصة وأن نسبة كبيرة من هذه الرواتب تذهب الى خارج العراق (لمستحقيها) المقيمين أوالمتجنسين هناك ، ولا تعود من جديد الى الداخــــــل العراقي في ( دورته الاقتصادية ) المعروفة ..
ووضع الاساس المتين للتنمية الحقيقية لن يتحقق إن لم تنظف البلاد من الفساد الذي انهك الاقتصاد وأفقر البلاد والعباد ، وأصبح ثقافة و(اسلوب حياة ) فلا يستطيع المواطن الحصول على خدمة عامة إلا عن طريق الرشوة أو الواسطة … ولذلك يكون القضاء على الفساد مهمة وطنية كبرى لا يستطيع أن ينهض بها إلا من إمتلك الشجاعة والقدرة على الحسم والحزم والخلاص من ( سيطرة الاحزاب ) ليكون حر الارادة من ضغوطها ، والانصاف في توزيع الموارد ، والانحياز للطبقة الاضعف وهم الفقراء ..
إذا كان حق الموظفين (مكفولا) من ( النفط) بحصولهم في نهاية الشهر على رواتبهم ، سواء إنخفض سعره أو إرتفع ، وسواء كانوا منتجين أم خاملين .. فأين هو حق الفقير في النفط ، وأين حق العاطل عن العمل والكاسب والحرفي الصغير والعامل الذي يعتمد في قوته على كسبه اليومي ، وهو عرضة للتأثر بالسوق والظروف ..
إن نسبة التخصيصات التشغيلية في الموازنة توضح هذا البون الشاسع بين الاثنين ، وغالبا ما تلجأ الحكومات الى سد العجر في الموازنة من هذه النسبة البسيطة المخصصة للاستثمار ..فيكون أثرها مضاعفا على شرائح المجتمع الاخرى ..
هناك من يقول إن المجتمع العراقي ( ليس مجتمع موظفين ) فقط ، لكي تستأثر التخصيصات التشغيلية بالنسبة الأكبر في الموازنة ، ولذلك ينبغي على الحكومة أن تضع الخطط المناسبة لتحقيق التوازن بين الموظفين والشرائح الاخرى ، وتحقق العدالة في توزيع الموارد بينها ، وتطوير واقع الشرائح خارج القطاع العام من خلال خطط تنموية طموح في المجالات الزراعية والصناعية والسياحية ، تستطيع إستيعاب العاطلين عن العمل وتوفير سلع وطنية باسعار تناسب موارد المجتمع .. وعند ذلك تكون للموازنة جدوى إقتصادية وإجتماعية ووطنية ينتظرها المواطن لتحريك عجلة الاقتصاد ، وتطوير واقعه نحو الافضل ، وليس الموظف فقط لتحقيق علاوته أو مخصصاته وغيرها من الامور التي يتمتع بها الموظف في القطاع العام دون الاخرين ممن لم يسعفهم الحظ ليكونوا في ظل رعاية الدولة لهذا القطاع ..
وإذا ما إستطاعت الحكومة أن تحد من الفساد تكون قد وضعت البلاد على الطريق السليم لتقليص نسبة الفقر ، وإحداث التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، وتحسين الحالة المعيشية للمواطن والخدمة للبلاد عموما وضمان حق الاجيال المقبلة بثروات البلاد ، دون ان تستأثر بها شريحة معينة أو جيل معين ..
وهنا يظهر بجلاء دور القائد في الظروف الصعبة ، كما هو حال سنغافوره في ستينات القرن الماضي على سبيل المثال في حربها على الفساد ومعركة البناء والتنمية بقيادة رئيس الوزراء ( لي كوان يو) الذي عد محاربة الفساد أولوية انمائية ، وعنوانا للحكم الرشيد .. فقد تسلم بلاده وهي (في حالة بائسة ، ينهش بها الفقر والمرض والفساد والجريمة بكل أنواعها ، وتباع مناصب الدولة لمن يدفع ) كما هو حالنا ، بحيث هناك تصور بأن الاصلاح مستحيل ، لكنه جعله ممكنا جدا ، لأنه كان يعرف من أين يبدأ في محاربته للفساد.. فعندما سئل عن سر نجاحه في حربه على الفساد وتميزه عن تجارب العالم الثالث في أسيا قال (نحن نحارب الفساد من قمة الهرم بينما هم يمسكون اللصوص الصغار ولا يقتربون من المفسدين الكبار ..) ..
باختصار شديد .. تجربة جديرة بالاعتبار نجحت لأنها ترى أن نظافة الشارع من الاوساخ تبدأ من نظافته من الفاسدين واللصوص ونجاحها دليل وعي الشعب ، ونزاهة النظام ، وجدارته بالحكم عندما قال ( لي كوان يو ) .. (حينما يسير اللصوص في الطرقات آمنين فهناك سببان : أما النظام لص كبير ، أو الشعب غبي أكبر ..) وهذا ما كان لا يرتضيه لنفسه ولا لشعبه ..
بهذه القوة والروحية إستطاع ( لي كوان يو ) أن يصنع معجزة وطنية أستحق بها أن يطلق عليه ( باني سنغافورة ) في تجربة صارت نموذجا عالميا بين التجارب العملاقة ، ويحتذى بها في التطبيق ، بعد أن جعل بلاده واحة متطورة تنعم بالتقدم والنظام وإحترام القوانين من خلال تطبيقها الصارم وانزال العقاب الشديد على من يخالفها ، بعد أن كانت تعد من أخطر الاماكن في العالم ، ويسودها الفساد والفوضى والبطالة والفقر دون منة عليها أو ينتظر عائدا ماديا أو إمتيازا أو مغنما منها…