في السابع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، أعلنت إيران اغتيال محسن فخري زاده رئيس منظمة الأبحاث والابتكار في وزارة الدفاع في منطقة أبسرد القريبة من العاصمة طهران. لم يكن الرجل معروفا في الإعلام، لكن اسمه كان قد ورد في قائمة العقوبات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي ضد إيران في عام 2007. وقالت عنه الوكالة الدولية للطاقة الذرية في عام 2011 إنه شخصية محورية في أنشطة إيرانية تسعى لتطوير البرنامج النووي.
حتى الساعة لا توجد مؤشرات مادية تشير بأصابع الاتهام إلى الجهة التي نفذت عملية القتل، لكن البحث عن الطرف المستفيد يعطي انطباعا بأن وراء الحادث تقف إسرائيل.
كان لهذا الحدث أثر حقيقي في إيران على الصعيد السياسي والدبلوماسي والأمني. أنه يأتي بعد عدة حوادث من الاستهدافات الاستخباراتية، التي شهدتها خلال الأشهر القليلة المنصرمة. فمنذ الصيف الماضي كان العديد من منشآتها الصناعية والنووية، ومحطات الطاقة والموانئ قد تعرضت إلى هجمات سيبرانية، قمتها كانت التفجير الذي حصل في مجمع نطنز النووي. وعلى الرغم من أن هذه العمليات تتم عن بعد، لكن المؤكد أن أجهزة المخابرات المعادية لطهران تعمل على الأرض أيضا، لذلك وجدنا أبو محمد المصري الرجل الثاني في تنظيم «القاعدة» يُقتل في أحد شوارع إيران في شهر أغسطس/آب الماضي، ثم يأتي اغتيال الخبير محسن زاده المُحاط بعناصر حماية شخصية بالطريقة نفسها. ولا غرابة في ذلك، لأن الاستراتيجية المعلنة من قبل كل الأطراف المتصارعة وبضمنها طهران، يقولون علنا إنهم لا يريدون المواجهة العسكرية المباشرة، ما يرفع من قيمة الدور الاستخباراتي في جدلية هذا الصراع، لكن يبدو أن طهران قد راهنت على القوة الصلبة التي في يد أذرعها الخارجية، في معادلة الصراع أكثر من مكافحة العمليات السرية في ساحتها الداخلية. أما أعداؤها فعلى العكس منها حيث يتضح أنهم راهنوا على وسائل الحرب السرية على أراضيها، لذلك بدت الصدمة واضحة على المسؤولين الإيرانيين من خلال طريقة الإعلان عن مقتل زاده.
تصريحات وبيانات قالت إنه قُتل في اشتباك مسلح، ثم تداركوا الامر وقالوا، إن العملية كلها تمت عبر منظومة أسلحة ذاتية الاستهداف، تُدار عبر الأقمار الصناعية، لماذا تبدلت الرواية؟ كي يستمر النظام بتسويق نظرية إيران التي لا تُقهر. وهنا يجب أن نُذكّر بأنه في حادث مقتل قاسم سليماني كان الموقف على النمط نفسه، وهو التقليل من شأن الخرق الاستخباراتي المضاد لها. فقد كانت التصريحات الإيرانية بأن سليماني تحركاته مكشوفة، ولم تكن عملية استهدافه صعبة، لكن في وقت لاحق قام النظام بإعدام أحد عناصره الأمنية، الذي يبدو أنه كان على علاقة بالمخابرات الامريكية، وأوشى لهم بخط سير وتحركات سليماني.
كيف يفكر صانع القرار الإيراني في الرد؟
الحروب الاستخباراتية ليست مفتوحة الأفق مثل الحروب العسكرية، كما أنها تقوم على أساس حسابات أمنية دقيقة جدا، وفيها الكثير من الضوابط البعيدة عن تفكيرنا كمراقبين ومحللين وحتى السياسيين. وما جرى لم يكن ليتم لولا أن كل خطوة من ردود الفعل قد حُسبت بدقة، لذلك إن ردت طهران على الاغتيال باغتيال مقابل فمعنى ذلك أنها تطوعت للذهاب إلى مسرحية طويلة من الاغتيال والاغتيال المضاد، في كل مكان من العالم، لذلك سيفكر صانع القرار كثيرا ويتساءل، هل أن عملية القتل فخ لإثارة إيران وأغرائها بعمل عسكري يكون بوابة لتدميرها؟ أم أنها رسالة دموية لها لاجبارها على الجلوس إلى مائدة المفاوضات؟ وهنا ستكون خياراته في الرد وفقا لاعتبارات عدة. سيرى صانع القرار الإيراني أن طريقة الاستهداف تسيء إلى الصورة التي حرص عقودا طويلة على تسويقها للعالم، وهي تختلف في تبعاتها داخليا وخارجيا، عن طريقة استهداف قاسم سليماني قائد فيلق القدس، الذي قتل بطائرة مُسيّرة قرب مطار بغداد بداية العام الجاري. الاختلاف أن سليماني قُتل خارج أراضيهم، بينما زاده قُتل في الداخل، على الرغم من الحماية المرافقة له. ومعنى ذلك أن كل هذه الأسطورة عن عظمة إيران باتت واهية، بعد أن ثبت أن أجهزة المخابرات الأجنبية ترصد وتراقب وتقتل شخصيات مهمة في النظام، من دون أن تستطيع الأجهزة الأمنية من كشفها. وفي هذا الموقف الخسارة مضاعفة. خسارة في الداخل أمام المعارضين، الذين كانت أجهزة الامن تقمعهم بشدة عندما يخرجون في تظاهرات شعبية، وخسارة أمام الاتباع والأذرع الذين يستمدون قوتهم وعنجهيتهم من قوة وعنجهية صانع القرار الإيراني. وخسارة أمام الولايات المتحدة وجميع الأعداء لأن الموقف الأخير يجعلها ضعيفة في عيونهم، ويمكن أن يجعلهم يتمادون ضدها. كما أنها حتى تخسر مع من يريدون التفاوض معها، لأن من يجلس إلى طاولة المفاوضات، وبابه الداخلي مخلوع فسيكون عليه تقديم تنازلات أكثر. إذن هذه الصورة من مسؤولية صانع القرار الإيراني تعديلها أو تغييرها بالرد. لكن هل أفق الرد مفتوح على مصراعيه أمام إيران؟ هذا هو السؤال المهم أمام صانع القرار.
يبدو أن طهران راهنت على القوة الصلبة في يد أذرعها الخارجية، في معادلة الصراع أكثر من مكافحة العمليات السرية في ساحتها الداخلية
لقد جرى حديث عن إمكانية الرد باستهداف ميناء حيفا في فلسطين المحتلة. سيكون هذا عملا عسكريا وليس استخباراتيا ضد إسرائيل، وهذه سترد مع الحلفاء، لأن تبريرهم سيكون أن إسرائيل تعرضت إلى عدوان لا مبرر مادي له. وهنا ستكون طهران هي الخاسر الأكبر في هذه الحرب، وهو ما سماه روحاني الفخ، ما قد يردعها عن الرد. ثانيا، قد يفكر صانع القرار الإيراني بالرد عن طريق الأذرع والميليشيات التابعة له في المنطقة، لكنه قد يستبعد هذا الخيار لأن الضربة جاءت على الاراضي الإيرانية، وضد مسؤول مهم في الداخل، لذلك ووفق هذه الظروف يجب أن يكون الرد مباشرا منها. لكن هنالك خيارا ثالثا وهو، أن يكون الرد من جنس العمل الذي واجهته. بمعنى أن الجميع اليوم يتحدث عن أن الفاعل كانت إسرائيل لكن من دون دلائل، ويمكن أن يكون الرد الإيراني بالطريقة نفسها. رد يشير إلى إيران لكن من دون توقيعها عليه، أي بدون دلائل حسية كي لا تتحمل التبعات، لكن على الرغم من أن إيران تبحث عن انفراجة في علاقاتها مع الولايات المتحدة في ظل الوضع الاقتصادي والمالي الضاغط عليها كثيرا، وأن اغتيال زاده لن يؤثر بأي شكل من الاشكال على برنامجها النووي، لان المعرفة باتت بيد كل العاملين في البرنامج، وليست محصورة بشخص زاده. ومع ذلك فإنها لن تترك خيار الرد.. لماذا؟ لأنها سترى في عدم الرد حافزا لتكرار استهدافها في مواضع أخرى، وبالتالي من قام بالعملية الأخيرة سوف يكررها وسيكون هو الرابح. لماذا؟ لأن استمرار هذه العمليات سيحرجها كثيرا، وقد يضع صانع القرار تحت ضغط صقور النظام فيوقعه في خطأ القيام بهجوم يكون فيه الرد على إيران بعملية عسكرية كبرى.
على الرغم مما يقوله ويفعله ويهدد به المتشددون من أركان النظام، فإن الرد لن يكون استفزازيا، لم يفعلوا ذلك عندما قُتل قاسم سليماني الذي كان مهندس استراتيجيتها في الشرق الأوسط، لكن السؤال الأهم هو هل الهدف من عملية الاغتيال كان تعطيل مسار الرئيس الأمريكي القادم نحو طهران؟