يوم الأحد 11 تموز 1943م الموافق 8 رجب 1362 هـ وفي تمام الساعة السابعة من صباح ذلك اليوم السعيد لجميع أفراد أسرتي، تنفست أول نسمة هواء في هذه الدنيا في قرية طويبة التابعة لناحية بلد قضاء سامراء لواء بغداد، ومردُّ ذلك الفرح أن والدي فقدا ابنهما البكر مثنى رحمه الله رضيعا، مما أثار موجة من التعاطف مع والدتي رحمها الله، التي كانت تعيش مع أفراد أسرتها في طويبة التي أخذت اسمها من الطيبة تحببا فلم يشأ أهلها إلا أن يتحببوا إليها باسم الدلال والدلع (طويبة).
قرية طويبة اليوم تقع ضمن ناحية يثرب في صلاح الدين على بعد عدة كيلو مترات من مرقد السيد محمد، تستلقي مستريحة الضمير على ضفة نهر دجلة اليمنى، وتقابلها من الضفة الأخرى ناحية الضلوعية، وطويبة قرية مملوكة بكامل مساحتها التي تزيد على عشرين ألف دونم من الأراضي الزراعية الخصبة للحاج جاسم السامرائي “خال أبي وأمي” وهو الذي بنى في بغداد الجديدة جامع السامرائي، وأراضي طويبة مرتفعة عن مستوى النهر عدة أمتار مما جعل من استخدام المضخات أمرا لا بد منه، ولهذا تم نصب خمس مضخات من نوع رستن البريطانية الصنع والتي تشتغل بالنفط الأسود، ومن أجل إيصال المياه إلى كل الأرض الزراعية تم فتح قناة رئيسة وتتفرع عنها قنوات فرعية حتى تصل إلى أبعد نقطة من تلك الأراضي الشاسعة، بعد أن تكون قد غطت حاجة المزروعات المتنوعة التي كانت تركز على القمح والشعير والذرة والقطن والمحاصيل الصيفية بمختلف أنواعها، ثم تتلاشى تلك القنوات بعد أن تكون قد فقدت ما كانت تحمله من مياه الخير.
تتوسط طويبة مناطق وقرى كثيرة، فبعد المرور فيها يمكن الوصول إلى قرية الاحِباب، وفي اتجاه آخر تقع منطقة البو جيلي والمزاريع، ومن أجل استغلالها على الوجه الأكمل فقد استقدم الحاج جاسم رحمه الله من أبناء سامراء عشرات العائلات الفلاحية وخاصة من ألبو أسود وكذلك من عشيرته ألبو رحمان.
وللحاج جاسم في تلك القرية الرائعة وكلاء يشرفون على إدارة الانتاج فيها، هم أشقاؤه الحاج مهدي والحاج إبراهيم واللذين قاما بهذه المهمة على الوجه الأكمل، وكانا في مساء كل يوم يستقبلان عشرات الفلاحين في المضيف المطل على نهر دجلة بعد أن تبدأ عملية رش الأرضية الخارجية له تلطيفا لأجواء الصيف ثم يبدأ المحمس بإعداد القهوة ويبدأ صوت الهاون ورائحة القهوة تسافر إلى مسافات بعيدة، وقد بنى الحاج جاسم لشقيقيه قصرا منيفا رائعا ما زال قائما حتى اليوم، وكان من بين وكلاء الحاج جاسم جدي بدر عبد الحميد زوج شقيقته الصغرى جدتي لأمي فاطمة رحمها الله، ووالدي الحاج فاضل حسون رحمه الله وهو ابن شقيقته الكبرى وخالي فرحان بدر رحمه الله.
ولأن الحاج جاسم كان متنورا جدا، فقد افتتح مدرسة في قريته هي مدرسة عكاب وهذا هو اسم المقاطعة التي تقع فيها قرية طويبة، وبناها على حسابه الخاص وسلّمها لوزارة المعارف، وبنى عدة دور للمعلمين، وكانت هذه المدرسة ملتقى لعشرات التلاميذ الذين يأتون إليها من مسافات تزيد على ثمانية كيلو مترات يوميا، لا يعبئون بالأمطار التي تقطع الطرق تماما فيأتون منهوكي القوى يحملون معهم أثقالا من الطين، كانت المدرسة تدار من قبل طاقم تعليمي رائع من مدينة الدور وتكريت والموصل التي اعتبر نفسي مدينا لتلك المدن بتعليمي الحرف الأول من أبجدية العرب، فأول مدير لها منذ أن وعيت عليها نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، كان المرحوم شاكر التكريتي الذي كان يعتمر السدارة الفيصلية السوداء، وفي ذلك العقد كانت الأناقة طاغية على الأسرة التعليمية، فربطة العنق تزّين مظهر المعلمين مع بدلة انيقة، على الرغم من أن التلاميذ يأتون إلى المدرسة بالدشداشة العراقية المعروفة، ولكنهم كانوا بمنتهى الحرص على اكتساب العلم من منابعه الصافية، وبعد الاستاذ شاكر الدوري جاءنا مديرا الأستاذ محمد جابر الدوري المعروف بحزمه وكان شقيقه معلما أيضا وهو المرحوم أحمد الدوري وشقيق آخر له هو نوري، وهناك معلم آخر هو الأستاذ عبد الرحمن من الموصل الذي ستكون لي قصة طريفة ومحزنة معه.
كما أن الحاج جاسم افتتح على نفقته الخاصة مستوصفا طبيا كان يديره المرحوم عبد الكريم علوش البازي وسلّمه لوزارة الصحة، وكان إلى جانب المستوصف منزل للطبيب كما كنا نطلق عليه، وكان هذا المستوصف قبلةً لكل سكان المنطقة والمناطق المجاورة لأنه الوحيد المتوفر هناك في ذلك الوقت، كما يعبر إليه المرضى من الضلوعية عبر الزوارق، فالناس منذ ذلك الوقت يمتلكون وعيا مبكرا بحيث يبعثون أبناءهم إلى مدرسة عكاب في طويبة، ويأتون إلى المستوصف عند أول عارض مرضي، ولا يبحثون عن خرافة الشفاء على يد معمم دجال.
ولم يكتف الحاج جاسم بذلك بل نصب محطة كهرباء في طويبة في عقد الأربعينيات من القرن الماضي عندما كانت مئات المدن العراقية الكبيرة لا تعرف معنى الكهرباء، وأنار أزقة القرية وجعلها تتلألأ وسط عالم من الظلام الدامس في المنطقة.
وسط هذه البيئة ولدت متمتعا برعاية استثنائية من أبي وأمي وجدي وجدتي وأخوالي وخالاتي رحم الله منهم من انتقل إلى رحمة الله وحفظ الله صغرى خالاتي أم سفيان، لكن صدمة العائلة كانت كبيرة عندما تأخرت بالنطق حتى العام السادس من عمري على الرغم من أنني كنت أسمع وأعي كل ما يدور حولي، لم تنته مصيبة أمي عند هذا الحد بل رُزق والداي باثنين من الاخوة الذكور من بعدي هما نافع وعبد الودود ولكنهما لم يكملا سنة من عمرهما وانتقلا إلى رحمة الله تعالى، هذا ما ضاعف الاهتمام بي من قبل العائلة كلها، فخضعت لرقابة صارمة خشية من موت أو مرض يفضي بي إلى الموت ومن المؤكد أن رقابة الحرص هذه كانت قيدا يضغط على أعصابي ضغطا هائلا، على العموم الخرس عطل حياة الأسرة كلها وخاصة والدتي التي بدأت تراجع الأطباء البعيد منهم والقريب لحل هذه المعضلة، راجعت أطباء بغداد من دون نتيجة وبعدها تذهب لكل من يعطيها بارقة أمل فراحت تنتقل من درويش إلى طبيب ومن طبيب إلى سيد ولكن من دون جدوى، كان الجميع يقولون لا علة تمنعه من النطق وربما يحصل ذلك فجأة وبمحض الصدفة أو لحدث طارئ.
كان نهر دجلة الساحر يشدّ أبناء طويبة إليه ابتداء من شهر نيسان فيهرعون إليه للسباحة في مياهه العذبة الطعم والوجه واللسان، فوجدت نفسي متعلقا بهذا النهر الخالد وكأنني أهرب إليه من حنان الأهل والأقارب، فلم يكن يريحني عندما أسمع كلمات الإشفاق التي كنت أسمعها وأعرف أن أمي كانت تتألم كثيرا في داخلها لعبارات المواساة بقدر فرحها بها لأنها تعبر عن تعاطف أهل القرية معها، ما كان شهر نيسان يطل علينا إلا وتبدأ فرق البحث عني تنتشر على ضفاف النهر، أمي وخالاتي خاصة، كانت أمي تطلق عليّ اسم عبد الشط، وتقول باللهجة العراقية الجميلة (ولك عبد الشط الاخيرس مو راح تموتني ولك تالي يعني إلا تلحق بمن سبقك، وتندب حظها أن أخذ الموت منها ثلاثة أبناء هم مثنى ونافع وعبد الودود وأبقى لها الأخرس).
بعد أن بلغت السادسة من عمري نطقت فجأة على شاطئ دجلة الذي أعشقه عندما كنت مع خالتي أم أركان، فقد أوشكت الأمواج أن تجرف بعض الأواني التي كانت تحملها من أجل العبور إلى الحويجة (جزيرة مملوكة للحاج جاسم أيضا) كانت مكانا لسفرات بعض سكان طويبة، ففيها تُزرع اللوبياء والخيار والخضراوات الصيفية، ومن صدمتي من فقدان بعض الأواني صحت باسم الاناء الذي كاد أن ينجرف في النهر، عند ذاك تركت خالتي أم أركان رحمها الله كل الأواني وعادت إلى البيت وهي تهلهل (تزغرد) وتصيح بلا وعي نزار حجى أي نزار نطق، كان ذلك اليوم سعيدا في العائلة من دون استثناء والتي تقبلت التهاني بالمناسبة السعيدة.
دخلت الصف الأول في مدرسة عكاب بعد أن تجاوزت السابعة من عمري وكنت ما أزال اتكلم بصعوبة بالغة، وتم إبلاغ الهيئة التعليمية في المدرسة بذلك، وفي أحد الأيام الشتوية وحيث كان المعلم الاستاذ عبد الرحمن الموصلي رحمه الله يدّرسنا مادة الدين، كان علينا أن نؤدي امتحانا شفهيا بسورة الكوثر، عندما جاء الدور علي قال لي اقرأها وكنت كلما أصل إلى كلمة “إن شانئك هو الأبتر” أحولها الى شائنك، ومرة بعد أخرى حاول معي ولكن لساني لم تستقم لغته حتى الآن، فصفعني بقوة اسقطتني على الأرض، كان الجدار الذي نجلس في “مشراكته” يعني في مكان نتعرض فيه للشمس هو جدار بيتنا الذي كنا قد انتقلنا إليه قبل سنة تقريبا، شعرت بالاهانة والخجل من زملائي، فخرجت مسرعا إلى البيت فصعدت إلى السطح وحملت معي طابوقة وقذفتها عليه، ولولا عناية الله سبحانه وتعالى وأنه كان يتحرك عند الدرس اخطاته الطابوقة ولو أن الطابوقة أصابته في رأسه لقتلته فورا، ولكن الله سلّم، المهم رفع الاستاذ عبد الرحمن شكوى ضدي أمام المدير وقرر عدم الدوام بعد ذلك اليوم ما لم يتم فصل نزار نهائيا، وبُذلت جهود حثيثة من قبل أخوال والدي ووالدي وجدي لحل المعضلة الجديدة، وأقاموا له دعوة عشاء عامرة وتقدمت له باعتذار وقبلّته ربما من يده من أجل مسامحتي على ألا أعود إلى مثل هذا العمل القبيح، لا أدري كيف سولت لي نفسي الإقدام على هذا العمل السيء، فقد كنا نتعامل مع المعلم على أنه شيء مقدس وإذا مرّ بزقاق فإن منعا للتجول يحصل في ذلك الزقاق.
كان من زملائي في المدرسة من منطقة الاحباب السيد طه الاحبابي وشقيقه السيد ياسين الاحبابي، ومن أقاربي السيد صبحي فاضل محمد وطارق إبراهيم وخالد إبراهيم واللذين اختطفتهما عصابات مليشياوية مرتبطة بإيران، وهناك أصدقاء آخرون منهم طارق إبراهيم العلوش ومجود للأسف الشديد لم أعد أذكر اسم أبيه وآخرون.
لعل الاستاذ محمد جابر الدوري أكثر مدراء المدرسة حزما ونجاحا، كان يجمعنا في الساحة الخارجية كل يوم خميس من أجل إلقاء قصائد (كنا نسميها محفوظات) سبق له أن أبلغ المعلمين بتحفيظها لنا وأذكر أهم قصيدتين، وهما قصيدة أبي العلاء المعري ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل وقصيدة صفي الدين الحلي سل الرماح العوالي عن معالينا، وبين فترة وأخرى كان يختارني لإلقاء إحداها أمام التجمع الطلابي، تشجيعا لي لأتجاوز صعوبة النطق ومن أجل غرس الشجاعة الأدبية عندي وعند بقية التلاميذ، رحم الله الأستاذ محمد الدوري الذي كان تربويا بارعا ويمتلك قدرة على كسب الطلاب ودفعهم إلى الأمام، لمدرسة عكاب أدوار مهمة وكبيرة في تخريج كوادر في مختلف الاختصاصات التي ملأت أماكنها بجدارة.
لكنني لم أبق في هذه المدرسة الرائعة، فنتيجة لتفشي بعض الأمراض في القرى على الرغم من وجود مستوصف في طويبة، فقد سحبني عمي الدكتور شامل السامرائي رحمه الله وهو شقيق أبي سنة 1951 سحبني من أبي وأمي اللذين تجرعا الأمر الواقع بمرارة أما أنا فكنت اتحرك بلا وعي عما يدور حولي وانصعت للأمر بقبول على أمل أن أعيش في عالم جديد، وخاصة بعد ما حل بوالديّ من نكبات متتالية نتيجة رحيل ثلاثة أشقاء لي، حتى قدّر أني لاحق بهم إن لم يتصرف بسرعة ويسحبني عنده كي يوفر لي جوا صحيا مناسبا بحكم كونه طبيبا ناجحا جدا وأدخلني إلى مدرسة أهلية هي مدرسة دار السلام الأهلية للبنين والبنات وتبدأ من الابتدائية وتنتهي عند نهاية الدراسة المتوسطة، كنا في بيت عمي شامل في كرادة مريم جدتي لأبي وعمي عبد الرحمن وعمي أحمد وعمي غازي رحمهم الله.
وبذلك طُويت من حياتي صفحة طويبة الرائعة أجمل بقاع الله الزراعية في الأرض والتي أحن إليها كثيرا، ومدرسة عكاب الابتدائية فيها والتي أشعر بأنني مدين لكل أسرتها التعليمية، بمن فيهم الأستاذ عبد الرحمن الموصلي ولذرياتهم نيابة عنهم بالامتنان والشكر الجزيل، وبدأت صفحة بغداد التي كانت جدتي تسميها بغداد ست البلاد، التي لا أقول فيها أكثر مما قاله الشاعر خضر الطائي رحمه الله(1908 – 1979م).
سلامٌ على دار السلام جزيلُ وعُتبا على أن العتاب طويلُ
أَبَغدادُ لا أهوى سِواكِ مَدينَةً وَما لي عَن أُم العراق بَديلُ
962