لو أتيحت للرحالة المغربي ابن بطوطة أن يزور بغداد التحرير هذه الايام، قادما من القرن الرابع عشر، لوجد نفسه، كما نجد أنفسنا، إزاء لحظة إنسانية تاريخية، ستجعله يغير ما أمـلاه عـلى ابـن جُـزَي في «تـحـفـة الـنّـظّـار في غـرائـب الأمـصـار وعـجـائـب الأمـصـار». حين وصف رحلته الى العراق، قائلا عن بغداد «وهذه المدينة العتيقة وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية، فقد ذهب رسمها. ولم يبق إلا اسمها. وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب إليها كالطلل الدارس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر، ويستدعي من المستوفز الغفلة والنظر، إلا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها كالمرآة المجلوة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبتين. فهي تردها ولا تظمأ ونتطلع منها في مرآة صقيلة لا تصدأ، والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ».
ما لم يذكره ابن بطوطة ومن قبله الرحالة الاندلسي ابن جبير ان «مدينة دار السلام، وحضرة الإسلام، ذات القدر الشريف، والفضل المنيف، مثوى الخلفاء، ومقر العلماء»، التي اعتبر الإمام الشافعي أن مَن لم يدخلها «ما رأى دنيا، ولا رأى ناسا»، لم يبق الا اسمها، لأنها تعرضت الى أقسى حدث في تاريخها وهو غزو المغول عام 1258. حيث «وضعوا السيف في أهلها» كما ذكر المؤرخ ابن الفوطي ووجدها أحد المؤرخين «وقد رحل عنها سكانها، وبان عنها قطانها، وتمزّقوا في البلاد، ونزلوا بكل واد».
في تشابه مؤلم، سبب الغزو الأمريكي، عام 2003، الذي أسس للاحتلال المشترك مع إيران، لبغداد وبقية العراق، ذات الخراب البشري والعمراني الذي خلفه المغول. انها ذات البغداد. جعلها المغول الجدد على وشك التمزق طائفية وفسادا. مدارسها طينية ومستشفياتها مقابر للمرضى. نساؤها يخشين السير في الشوارع ورجالها معرضون للاعتقال والتعذيب والتغييب. يرحل عنها سكانها خوفا من القمع والقهر والموت. أغنياؤها يتمتعون بالملايين وفقراؤها من النساء والأطفال يتسابقون على التقاط ما يمكن التقاطه من القمامة. الخريجون عاطلون عن العمل. ثروة البلد يتشارك في نهبها الحاكم الفاسد وسادته. مظاهراته واحتجاجاته خلال 16 عاما، تقمع خطفا وقتلا لأنها «بعثية، إرهابية، داعشية، تخريبية». وتجاوز عدد ضحاياه أما قتلا بشكل مباشر أو نتيجة انعدام الخدمات الصحية المليون مواطن.
إنها ذات البغداد، عاصمة البلد الغني الذي يريد الغزاة، كما جيران السوء جميعاً، شرقا وغربا، شمالاً وجنوباً، ابقاءه مريضا، ضعيفا، جائعا، مستخذيا، بلا كرامة، عاجزا عن التفكير أبعد من يومه، ينخره عنف زرعوه وهم يحاولون اقناعه بانه هو السبب لأنه يحمل جينات العنف. الى أن نهض الشباب في الاول من تشرين/ اكتوبر.
نزل المزيد من المتظاهرين، نساء ورجالا، إلى ساحات المدن وجسورها، متعهدين باستمرار الاعتصامات، مهما كان الثمن، مطالبين باستعادة الوطن من أيدي من تصرفوا على مدى 16 عاما، بشكل يماثل المغول في دمويتهم
ليكون يوما سيؤرخ حدثا لم يشهده البلد منذ عاش العراق وبقية الدول العربية فرحة التحرر من الاستعمار. انتفض الشباب على الحكومة والأحزاب وقدسية المرجعيات ومليشيات الاحتلال. مدركين بان صمتهم ان استمر سينتهي بتدمير انفسهم، تدمير الانسان وحضارته التي صنعها عبر التاريخ. انتفضوا على الحاضر المرير، المتمثل لا بالنظام فحسب، بل وحتى أهاليهم الذين خدعتهم أوهام الطائفة، وصمتوا إزاء الخراب والموت البطيء بانتظار تحقيق الوعود. بانتظار غودو. انتظروا ولم يأت الموعود.
باستمرار الانتفاضة، سقطت الجدران الكونكريتية التي أسسها وبناها ويرعاها المحتل والحكام بالنيابة. معها سقطت قائمة التهم الجاهزة. باتت مجرد هراء. إلا أن هذا لا يعني أن النظام وشريكيه سيتنازلون بسهولة امام المتظاهرين، مهما كانت انتفاضتهم سلمية. وإذا كانت قائمة الشهداء قد بلغت 325 والجرحى عشرة آلاف، فان استمرار الاستهداف الوحشي للمعتصمين، بينما يتحدث ساسته عن الاصلاحات، يبين أنهم استساغوا طعم الدم ولن يتوقفوا عن شرب المزيد. ومن يقرأ بيانات وتصريحات رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، بعد إزالة العبارات المنمقة، الفضفاضة، وتجريدها من « سوف» وعود الاصلاح سيجد أن نية القضاء على الانتفاضة هي التي يريد النظام ومستشاروه وميليشياته الإيرانية، تنفيذه. بينما يقف «المستشارون» الأمريكيون، في معسكراتهم المتناثرة كالبثور على وجه العراق، بانتظار مشاركة الغنيمة.
فبعد أن وزع النظام وميليشياته قناصين عراقيين وإيرانيين على سطوح البنايات، واستخدم الرصاص الحي والغازات المسيلة للدموع المصنعة خصيصا للمعارك الحربية، انتقل الى مرحلة المراوغة اللفظية، والتهديد المبطن، والتستر بعباءة المرجعية وعدد من المثقفي قراط الطائفيين. كلهم يدعون، سوية مع عبد المهدي، انهم حريصون على سلامة المتظاهرين، وعلى الممتلكات العامة، والتعليم، والمستشفيات. في الوقت الذي يعرفون فيه جيدا انهم لم يكملوا أثناء حكمهم مشروعا حقيقيا واحدا (هناك طبعا آلاف المشاريع الوهمية)، وانحدر مستوى التعليم والصحة الى أسوأ المستويات في العالم (حسب المؤشرات الدولية)، وان حرصهم على حياة المتظاهرين تم تطبيقه على الارض بقتلهم. اما قطع الانترنت الذي يعني بان بإمكان النظام أن يقتل الناس كما يشاء بدون أن يطلع العالم الخارجي على جرائمه، فان عبد المهدي يبرره بقوله « لأنه يستخدم للترويج للعنف والكراهية والتآمر على الوطن وتعطيل الحياة العامة». كما يشرعن قتل المتظاهرين بذريعة ان النظام « في وضع دفاعي كامل» وانه «لا يستخدم النار بل أبسط الوسائل»، مستهجنا بحرقة المتهم البريء «ومع ذلك نُلام»! وليصب الملح على جروح المتظاهرين وذوي الشهداء وليقتل الشهداء مرة ثانية وثالثة، أطلق النظام عددا من المثقفي قراط ليجلسوا في استديوهات الفضائيات (عزت الشابندر، الشرقية، 8 تشرين الثاني/نوفمبر) مدافعين، عن جرائمه، بحجة ان القوة الخفيفة للدولة تحمي المؤسسات، والى حد لوم الضحايا (وهو نهج شائع لدى المحتل الصهيوني) في ذات الوقت الذي تم فيه قتل ستة متظاهرين، ونزل المزيد من المتظاهرين، نساء ورجالا، الى ساحات المدن وجسورها، متعهدين باستمرار الاعتصامات، مهما كان الثمن، مطالبين باستعادة الوطن من أيدى من تصرفوا على مدى 16 عاما، بشكل يماثل المغول في دمويتهم، وأطلقوا من وعود الاصلاح الكاذبة ما يجعل حتى ملابس الامبراطور العاري حقيقة بالمقارنة.