في علم التحقيقات الجنائية قد يكون القاتل أداة للجريمة وحلقة منها وليس مصدرها الأخير، هذا المنطق يمكن تطبيقه على الميليشيات الإيرانية في العراق المنفذة لمسلسل القتل لا فقط بعد انتفاضة أكتوبر 2019 ولكن قبلها بعقد ونصف من الزمن. فالأحزاب الشيعية الموالية لإيران ليست ذات صلة بمبادئ المذهب والعقيدة أو بالسياسة، فقد دخلت الحكم كأدوات تنفيذية لمشروعي أميركا وإيران. مشروع الاحتلال الأميركي دمر القواعد الأساسية للدولة العراقية بأدوات أغلبها من أحزاب الإسلام السياسي التي تعاونت معه على قتل عشرات الألوف من العراقيين بتهم طائفية مقيتة.
لم تمتلك إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن مشروعا سياسياً للتحول الديمقراطي التنموي في العراق. بل إن الحاكم الأميركي بول بريمر رغم سخريته من الزعامات الشيعية في كتابه “عام قضيته في العراق” منح الكثير من الأغبياء والجهلة مناصب لم يحلموا بها، وأقصى ما حلم به بعضهم أن يكون مدير مدرسة ابتدائية وليس وزيراً أو رئيس وزراء في دولة اسمها العراق.
لميليشيات الإيرانية تؤدي دورها في استكمال مشروع اللادولة لأنه الوسيلة الوحيدة لاستمرار ما وصل إليه النفوذ الإيراني، رغم ما يعيشه من انتكاسات قصمت ظهره
لم يكن لدى الأميركان أجهزة وأدوات عراقية من خارج التنظيمات الشيعية، من أصحاب “التقيّة” في التدليس على الأميركان الذين لا يمتلكون عقيدة يسعون لنشرها في العراق، فيما امتلكت إيران مشروع تصدير الثورة الخمينية من خلال أدواتها الميليشياوية التي تدربت على أساليب القتل والترويع في تنفيذ جهنمي لنظرية “حرب أبناء جيش الحسين ضد أبناء جيش يزيد”، حيث كانت مثالاً لفرمانات التفويض بالقتل من قبل أعلى سلطة حكم في العراق آنذاك، نوري المالكي، التي واصلها بعد سلفه إبراهيم الجعفري على دوافع طائفية خادمة للمشروع الإيراني، وتبعه فيما بعد مسؤولون آخرون لم يحتاجوا إلى إعلانات رسمية وإنما إلى تطبيقات لإبقاء البلد في حالة حرب داخلية من طرف واحد لحين إنجاز الهيمنة الإيرانية الكاملة على العراق، وهذا ما تحقق بعد نهاية الحرب على تنظيم داعش في العام 2017.
ولأن قادة الأحزاب الشيعية لا يمتلكون مشروعاً لبناء العراق بل لتدميره، لهذا فهم لا يتخلون عن الاستمرار في سرقة ثرواته المالية والطبيعية ببقاء نفوذهم بالحكم، ولأنهم كذلك فهم يعتقدون بأن الطريق للحفاظ على وجودهم الشاذ في المشهد السياسي هو البقاء أسرى لأدوات القتل الميليشياوية الإيرانية التي تضخمت وتحكمت في أغلب المرافق والفعاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على غرار النموذج الإيراني “الحرس الثوري”. قادة الأحزاب هؤلاء هم المنظرون والراعون للقتل، والمرحبون بالتطرف الميليشياوي لمناهضة أي دعوة لحصر السلاح بيد الدولة.
فهل سمعنا يوماً رئيس وزراء حكومة مسؤولة عن حياة الشعب منذ عام 2005 إلى حد الآن قد أعلن ونفّذ خطوة لمناهضة الميليشيات وانتهاكاتها. ألم يمتلك رؤساء جميع تلك الحكومات ملفات حول فظائع ضد العراقيين في القتل والاختطاف التي وثقتها المنظمات العالمية لحقوق الإنسان. على العكس من ذلك، فقد سهلوا وغطوا على انتهاكات الاعتقالات الجماعية العشوائية والحرب الطائفية التي بدأت في عهد رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري عام 2005 حيث وصل عدد المعتقلين في ذلك العام 28 ألف شخص بينهم العلماء والأطباء والمهندسون، والجعفري هو صاحب المعلومة المشهورة، عندما كان وزيراً للخارجية، “نهري دجلة والفرات ينبعان من إيران”، منافياً لحقيقة أن منبعهما من تركيا، وأن حكومة العراق بعد 2003 “ملائكية”، وفي عهده اشتعلت الحرب الطائفية من قبل الميليشيات الإيرانية بتفجير مرقدي الإمامين علي الهادي وحسن العسكري في سامراء عام 2006 التي وجه الاتهام فيها للجنرال الإيراني قاسم سليماني. وفي عهد عادل عبدالمهدي رغم قصر مدته انتعشت جرائم الميليشيات في حق الشباب المنتفض الذين أجبروه على الاستقالة
الميليشيات الإيرانية تؤدي دورها في استكمال مشروع اللادولة لأنه الوسيلة الوحيدة لاستمرار ما وصل إليه النفوذ الإيراني، رغم ما يعيشه من انتكاسات قصمت ظهره، ومراهنة النظام تبقى على استمرار نفوذ تلك الميليشيات ووصولها إلى مراحل متقدمة في العملية السياسية وليس على رئيس وزراء يحكم البلد، وقد يكون مصطفى الكاظمي أقل انبطاحاً من عادل عبدالمهدي، إلا أنه غير قادر على اتخاذ خطوة عملية لقطع شرايين ذلك النفوذ حتى وإن أطلق تصريحات تلامس المزاج الشعبي العام.
لم يكن لدى الأميركان أجهزة وأدوات عراقية من خارج التنظيمات الشيعية، من أصحاب “التقيّة” في التدليس على الأميركان الذين لا يمتلكون عقيدة يسعون لنشرها في العراق
لهذا فإن ما نسمعه من بيانات نارية لبعض تلك الميليشيات، وفي مقدمتها كتائب حزب الله العراقي، التي أعلنت أخيراً رفضها لتكليف الكاظمي برئاسة الوزارء وتحذيرها من حرب متوقعة رغم موافقة طهران وباقي الميليشيات، يدخل في إطار توزيع الأدوار الإيرانية المتقنة لبعض الميليشيات المعروفة بالتطرف وهي ذات رسائل مزدوجة. فمن جهة تحذّر الكاظمي وتضغط عليه بضرورة عدم دخوله فعلياً في مشروع تحجيم دور الميليشيات إن كان موجوداً في أجندته، واستمرار قنوات النهب الإيراني لثروات العراق وهذا هو المهم، والرسالة الإيرانية الثانية موجهة إلى بقية الفصائل خاصة الموجودة داخل البرلمان، من تنظيمات الفتح، بضرورة الاستمرار في اعتماد خطاب إعلامي مرن ومهادن لواشنطن في مرحلة أشد ما تحتاج إليها طهران للدخول في الحوار معها.
مشروع اللادولة الذي تقوده الميليشيات في العراق قائم على عسكرة البلد وخلق الأعداء بعد أن انتهت أوراق العدو البعثي والسني والداعشي، واليوم ورقة العدو الأميركي في طريقها لسلة المهملات. وتبعات النهب والفساد وقتل العراقيين التي ستلحق ميليشيات القتل لن تعفي قادة الأحزاب ومن تولوا مسؤوليات عليا في الحكومات المتعاقبة، ففي ظل قراراتهم وبرامجهم سهلوا طريق القتلة، ومن يعاون القاتل ويرتب له أركان الجريمة لن يعفيه شعب العراق ولو إلى حين.