عندما تتمّ فرنسا المهمة في الموصل

في تقرير مصوّر لها من مدينة الموصل العراقية نشر قبل أيام، يقول مندوب الأمم المتحدة إنه قد صدم من حجم الخراب الذي شاهده، وهو يدخل إلى الجانب الأيمن منها، وإنه على الرغم من زياراته المتعددة لمواقع نزاعات في أفغانستان وأفريقيا، إلا أنه لم ير يوماً أجزاءً من مدينة تم سحقها وتهديمها بهذا الشكل. الخراب أشبه بصور الحرب العالمية الثانية في ستالينغراد وهامبورغ أو كوفنتري، فقد تم تدمير المدينة بالكامل. هذا التدمير الذي يصفه موظف الأمم المتحدة ليس تدمير ما سماه الإعلام الغربي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فما جرى للمدينة، بشهادة موظف الأمم المتحدة نفسه، هو قصف منظم بالطائرات، كما في ستالينغراد وهامبورغ اللتين تم قصفهما بكثافة، ليتم إخضاعها، وكذلك هو الأمر في حالة مدينة الموصل التي بقيت عصيةً على الاحتلال الأميركي – الإيراني منذ الغزو، على الرغم من ممارسات الحكومات المتعاقبة والمتواصلة ضد أبنائها، المتمثلة بالتهجير والاغتيالات الممنهجة والطائفية وسجن الأبرياء، وفرض أتاوٍ على الصغير والكبير من أصحاب المخازن والأسواق، وفي إنجاز المعاملات التي حوّلت حياة الناس إلى جحيم دائم. هيأت أوضاعه لدخول مرتزقة “داعش” بغطاء حكومي من رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي أمر بانسحاب الجيش وقوات الدولة ومليشياتها من المدينة، تحت أنظار القاعدة الأميركية في الشرقاط، والوجود المتنوع لدول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومنه الوجود الفرنسي الذي أكده رئيس أركان الجيش في بيان له، هو ووزيرة الدفاع، قبل أيام عن العملية العسكرية التي أنجزتها قواته العسكرية في الموصل، والموجودة هناك منذ 2014، أي مع دخول تنظيم الإرهاب المرسل إلى المدينة من الرّقة 

“الخراب في الموصل أشبه بصور الحرب العالمية الثانية في ستالينغراد وهامبورغ أو كوفنتري، فقد تم تدمير المدينة بالكامل”

السورية، فهل أوكلت إلى الجيش الفرنسي عملية “تأمين” يعني، بحسب الجيوش الغربية، قمع جيوب أي معارضة للمناطق التي يريدون السيطرة عليها، وإخضاعها وتصفيتها، كما في مدينة الموصل؟ تقول وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي، في بيان لها نهاية شهر مارس/ آذار الماضي: “إن آخر كيلومتر لما عرف باسم الدولة الإسلامية قد سقط. إنه نجاح جماعي انتظره كل الفرنسيين”. وتتكلم الوزيرة عن نجاح عملية عسكرية بدأت منذ عام 2014 سميت عملية “شمال”، شارك فيها 1200 عسكري من قوات برية وبحرية وجوية، كما يذكر بيان رئاسة الأركان الذي يشكر فيه قواته المختلفة التي نفذت، وبمهنية وحرفية عالية، وبأروع الطرق، هذه العملية. ولن نقرأ في بياني وزيرة الدفاع الفرنسي ورئاسة الأركان أيّ كلمة عن مدينة الموصل، بل هما بيانان يشبهان بيانات وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، وخطب رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبين عن جيوش بلدهم في العراق، والتي بحسبهم، تدافع عن الشعب الأميركي وقيمه في الحرية والديمقراطية ضد الإرهاب، فرئيس الأركان الفرنسي، بعد أن يحيي العمل الفذ للعسكريين المشاركين في “عملية شمال” يشيد بالتزامهم بحماية الفرنسيين من الإرهاب، وينعى اثنين من جنوده دفعا حياتهما لخدمة فرنسا!
إذاً، لم تكن الولايات المتحدة وحدها من يراقب دخول مرتزقة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى الموصل، بل هناك أيضاً القوات الفرنسية نفسها! وإذا كانت هذه القوات بهذه المهنية والحرفية الراقية، كما يصرّح رئيس الأركان، موجودة بكل أشكالها، برية وجوية ومخابرات، فكيف ترك مرتزقة غير مهنيين، لا يملكون طائراتٍ ولا خبراتٍ وتقنياتٍ، أكبر الجيوش بالبقاء في المدينة عدة سنوات ولماذا؟ ولماذا لم يتحرّك العسكريون للتخلص منهم، بدل تدمير المدينة، وقتل أهلها وتهجيرهم بهذه الطريقة؟
هناك اعتراف رسمي، في بياني وزيرة الدفاع ورئاسة الأركان الفرنسيين، بأن العملية “شمال” التي استهدفت الموصل فرنسية بحتة بدأت عام 2014 وانتهت نهاية عام 2017، بل هي لم تنته، كما ذكر بيان رئاسة الأركان الذي ناقض الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وإعلانه نهاية “داعش” بقوله إن مسلحي هذا التنظيم عادوا إلى العمل السري، ولم يختفوا تماماً؟ ليس ذلك فحسب، بل زلّ لسان ترامب بجملة خطيرة، عندما رفض طلباً فرنسياً باستقبال الولايات المتحدة عوائل مرتزقة “داعش” وأبناءهم، فرفض وقال إن هؤلاء فرنسيون (!). أما “الأغرب” فهو تصريح نائب في برلمان العملية السياسية، المتواطئة في جريمة الموصل، بأن ما حصل للمدينة هو مؤامرة كبيرة لتدميرها. وليست هذه النائب شخصاً عادياً من المواطنين العراقيين، ولا متضرّرة من النظام السياسي. وعلى الرغم من ذلك، استعملت هذا التعبير للكلام عن دمارٍ لا مثيل له، كان الغرض منه إسكات صوت الموصل إلى الأبد.
“أمنت” فرنسا إذاً، بعملية شمال العسكرية، وبالتدمير الهائل والتهجير، في ثانية أكبر مدينة 

“قالت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي، في مارس الماضي: “إن آخر كيلومتر لما عرف باسم الدولة الإسلامية قد سقط. إنه نجاح جماعي انتظره كل الفرنسيين””

عراقية، وأهم مدن العراق المقاومة للاحتلال. وقد قال موظف الأمم المتحدة، بطريقة دسّ السم بالعسل، إن سكان الموصل لا يمكنهم العودة إلا بعد عشر سنوات، بسبب ما وضع في الديار من متفجرات وقنابل، يمكن تفجيرها لتقتل الناس. ولكن ما دفع الناس إلى الهجرة مرة أخرى، ليس فقط القنابل ولا الدمار والخراب، بل هو إهمال الدولة وامتناعها عن مساعدة المواطنين للرجوع وتعويضهم، بل عودة القوات الحكومية والمليشيات إلى الممارسات السابقة نفسها على دخول “داعش”.
في مطالع يناير/ كانون الثاني 2011، عرضت وزيرة الدفاع الفرنسي في حينه، إليو ماري، “قدرات فرنسا العالية” وخدماتها على الدكتاتور التونسي زين العابدين بن علي، عقب التظاهرات التي خرجت مندّدة بحكمه، وقالت “إننا نعرض قدراتنا الأمنية المعترف بها في العالم أجمع والتي تتمكن من حل المشكلات”، لكن الشعب التونسي خلع بن علي، على الرغم من الدعم الفرنسي الكبير له. كما أن الشعب الجزائري أجبر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة. وها هو الشعب السوداني مستمر في احتجاجاته السلمية، وأجبر الرئيس عمر البشير على التنحي عن السلطة، لتغيير نظام الاستبداد. أما تظاهرات البصرة وكل الجنوب في العراق فهي مستمرة منذ سنوات. وكلها بروفات لموعدٍ مشابهٍ ضد طغيان المحتل وحكوماته التي فخخت العراق، وباعته بالمفرق لهذا وذاك، وأذلّت شعبه بالقتل والتهجير والطائفية والسجن، وتواطأت في تدمير مدنه واحدة بعد أخرى، وسلمت ثرواته كاملة. وستتجه تظاهرات العراقيين يوماً إلى إنجاز عراق ديمقراطي متعدد، يعيش بحرية، ويحقق لشعبه الكرامة والعدالة الاجتماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى