غاطس العلاقات الأمريكية الإيرانية

الجزء الثالث والاخير

شهدت الولايات المتحدة تحولات سياسية واجتماعية كبرى في منظومة قيّمها هيأت الأرضية لوصول أول رئيس زنجي هو باراك حسين أوباما إلى البيت الأبيض، تحت شعار معارضة سياسة الحروب التي اعتمدها الرؤساء الذين سبقوه، كان أوباما محمّلا بخليط غير متجانس من الأفكار المتصادمة والأمنيات الخجولة والأحلام السياسية التي كانت تتحدث بلكنة غير أمريكية، مما وضع المراقبين المهتمين بالسياسة الأمريكية الدولية، في أصعب ظرف يمرون به وربمّا بات من العسير على أكثرهم فطنة أن يتوقع الخطوة التالية لأوباما بشأن الملفات الساخنة التي واجهت الولايات المتحدة لا سيما العلاقة الملتبسة مع إيران وارتباط مفرداتها بموضوع الملف النووي الإيراني المثير للجدل والرغبة الجامحة لأوباما لتسجيل انجاز في آخر رئاسته يتمثل في توقيع اتفاق بين إيران ومجموعة 5 + 1.
بعشقه للحضارة الفارسية وبغضه للعرب المتخلفين، كان أوباما يبعث برسائل استرضاءً لإيران، وربما كان يعبر عن مكنوناته الحقيقية وربما كان يتطلع للقفز فوق جدران تاريخ من العداء العلني بين الطرفين كانت إيران تحرص على إظهار تمنّعها من تقديم أي تنازل يخص برنامجها النووي، وربما كان يتطلع لاستعادة زمنٍ ماضٍ في علاقات خاصة بين البلدين، على الرغم من سطحية مثل هذه الأوهام وسذاجتها التي لا تَخفى حتى على السياسيين المبتدئين، ولكنه مضى في طريقه لا يلوي على شيء.
وينسب إلى نائب مستشار الأمن القومي للرئيس وكاتب خطاباته بن رودس، في كتابه (العالم كما هو)، أن أوباما يكّن كراهية للعرب ويحب إيران، ويحترم حضارتها العريقة القديمة، لأن العرب ليس عندهم مبدأ أو حضارة وأنهم متخلفون وبدو.
ربما لم ترد هذه الفكرة بهذا النص أو بهذه الدقة في كتاب بن رودس، ولكن طريقة إدارة أوباما لملف علاقات الولايات المتحدة مع إيران ومع العرب خلال ثماني سنوات من رئاسته، كان يؤكد ذلك الفهم وذلك الأسلوب الذي طبع فترتي وجوده في البيت الأبيض، إذ تميزت بأجواء باردة للغاية في علاقات الولايات المتحدة مع أقرب حلفائها العرب وهي المملكة العربية السعودية، ولم تخف الأخيرة شعورها بذلك الإحساس مع معرفتنا أن السعودية متحفظّة في الإعلان عن مواقفها السياسية بشأن علاقاتها الدولية.
وهنا قد يكون من حق المراقب أن يطرح سؤالاً مهماً عن أسباب إخفاق العرب في نسج علاقات متوازنة ومتكافئة مع الولايات المتحدة خاصة ومع الدول الغربية عموما، وهل يرتبط الأمر بعجزٍ عربي في فهم اللعبة الدولية أم أن الأمر يرتبط بالدهاء الإيراني كما يحلو لبعض الأوساط أن تكرّس ذلك التصور في ذهن المراقب؟ أم أن للولايات المتحدة حسابات لا ترتبط بكفاءة طالبي ودّها أو عجزهم عن تحقيق اقتراب أو ابتعاد عنها؟ هناك تصور بأن منظومة الدولة الحديثة والقادرة على نسج علاقات دولية مع مختلف دول العالم، صغيرها وكبيرها، لم تتبلور في دول الخليج العربي بما يتناسب مع مواردها الهائلة ولا مع تطورها العمراني والبشري، وربما لم تعرف حتى اللحظة قيمة ما تمتلكه من ثروة قادرة على تحريك عجلة السياسة الدولية بسرعة تفوق قدرتها على تحريك ماكنة الاقتصاد العالمي.
إن ذلك ناجم عن عدة عوامل تضافرت مع بعضها لتفرض نفسها على الدوائر السياسية في منطقة الخليج العربي، منها ما له صلة بالطبيعة العشائرية البدوية التي تحكم سلوك النخب الحاكمة في هذه الدول بما لم يعد متناسبا مع ظروف التطور السياسي والاجتماعي السائد في العالم اليوم، ويمكن إجمال أسباب نظرة الاستخفاف التي يستشعرها الغرب بأمراء الدول الخليجية أو أثريائها والذين تكدست لديهم ثروات فلكية وصلت إليهم من دون وجه حق كما يعتقد الغرب ومن دون جهد منهم، فراحوا يعبثون بها على موائد القمار والمراقص والنوادي الليلية واقتناء القصور التي تعود لأمراء أوربا في القرون الوسطى واسطبلات تربية الخيول وشراء السيارات الفارهة والطائرات الخاصة الباذخة، في حين تعاني قطاعات واسعة من أبناء شعوبهم من الجوع وشظف العيش وانعدام الخدمات التعليمية والصحية وتعيش في بيوت طينية لا تتوفر فيها أبسط مقومات الحياة الإنسانية وانعدام القوانين المحددة لطرق الحصول على الثروة ومراقبة النزاهة ودفع الضريبة للدولة، فاستعاضت تلك الدول عن الالتزام بمراقبة حركة الأموال في المجتمع إلى إشغال الشعب في معارك هامشية وبذل الجهد لاسترضاء الولايات المتحدة وكسب ودّها عن طريق دفع الجزية للدول الكبرى واسكات النقد الصحفي الدولي عن طريق شراء الأقلام، لكن المحيّر أن الغرب الذي يكنّ ازدراءً لحكام الخليج العربي، كان هو الذي يضع كل ما يمتلك من أدوات ضغط وامكانات لعرقلة خطط التحديث في أي قطر عربي يحاول الافلات من دائرة التبعية الاقتصادية والسياسية والعلمية للغرب، كما حصل ذلك في تعاملهم مع مصر طيلة فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكرروا اللعبة نفسها مع العراق خلال حقبة الرئيس الراحل صدام حسين رحمه الله وإن بخشونة أشد وضغوط أقسى عسكريا تمثلت بدخول الولايات المتحدة على خط الحرب بعد أن ظلت الضغوط الغربية مع النظم غير المرضي عنها تتمثل في تحريك الذراع الإسرائيلي أو أدوات الضغط الاقتصادي.
لكننا ومن باب الإنصاف يجب أن نشير إلى أن أوربا والولايات المتحدة وهي تمارس كل أشكال الضغط على دول الخليج العربي سواء في المنظمات الدولية وتقارير منظمات حقوق الإنسان أو حرية ممارسة الصحافة، بذلت هي بنفسها كل ما تملك من قدرة لمنع الدول التي تصفها بالتخلف، من رسم خطط التحديث الاقتصادي والاجتماعي والسياسي أو على صعيد ممارسة الحريات العامة أو التداول السلمي للسلطة، فالدول الغربية تحرص على استخدام ما كانت سببا في نشوئه من أساليب حكم بالية بمنظار العصر، وراحت تمارس أقصى درجات الضغط على تلك الدول، تارة تحت لافتة غياب الديمقراطية، وتارة أخرى تحت لافتة عدم احترام حقوق الإنسان، وتارة تحت لافتة منع الحريات العامة وخاصة حرية الصحافة والصحفيين.
وهناك مؤشرات على أن الرئيس ترمب المولع باستبدال كبار مستشاريه المقربين، أنه عندما استبعد مستشاره السابق لشؤون الأمن القومي “بولتون” الموصوف بأنه من صقور الإدارة الأمريكية المتحدة، بروبرت أوبراين المبعوث الرئاسي الخاص لشؤون الرهائن في الولايات المتحدة، أراد أن يبعث برسالة مزدوجة إلى إيران، في شقها الأول أن الولايات المتحدة ليست في وارد القبول باختطاف أي أمريكي آخر لأن ذلك يتسبب بإحراجات جارحة للإدارة الأمريكية التي تواجه صعوبات داخلية قد تدفع بها للتنفيس عنها في مواجهات خارجية، وفي شقها الثاني أن نهج المواجهة الأمريكية تجاه إيران يمكن أن يكون من مخلفات الماضي فيما لو أبدت إيران حسن نية وبخطوات عملية لحل العالق من قضايا الرهائن الأمريكيين وعموم الأوربيين، فالتقطت إيران التحية وردت بأحسن منها عندما أطلقت سراح رهينة أمريكية من أصول إيرانية، تعبيرا عن حسن نية متأخرة ورسالة أرهقها طول السفر والتنقل بين مراكز صنع القرار الإيراني الذي لا يستطيع الخروج عن إرادة علي خامنئي مهما طفت على السطح أصوات تحاول تمثيل دور الاعتدال المبتذل.
لذا يذهب مراقبون محايدون إلى أن السنةَ المقبلةَ وما يعقبها من أربع سنوات من إدارة الرئيس الأمريكي المقبل، سواء تم التجديد لترمب أو جاء إلى البيت الأبيض رئيس جديد، ستكرس مبدأ الاتصالات السرية بين الولايات المتحدة وإيران تحت لافتة حل مشكلة الرهائن لدى إيران، لكن الملفات ستتدافع لتطرح على طاولة البحث بين الطرفين لا مكان للحلول الوسط فيها، فإيران ستحصل على تفويض أمريكي لإطلاق يدها في الدول التي أطبقت يدها عليها مقابل التعهد بعدم إحراج الولايات المتحدة أو التعرض الجدي لمصالحها الحيوية في العراق ودول الخليج العربي، وربما سيتذرع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، بأن حلفاءه الأوربيين خذلوه في أول حروبه ضد إيران، بل وصلت وقاحتهم أنهم تحدّوا العقوبات الأمريكية على إيران وراحوا يبحثون عن ثغرات يتسللون من خلالها لمد جسور التعاون الاقتصادي والتحايل على العقوبات الأمريكية، هذا بخلاف الدعم الروسي الصيني التركي الهندي والذي تمنحه السلطة الحاكمة في بغداد بسخاء لطهران مما أخرّ سقوطها أو حتى ركوعها كل هذا الوقت، يضاف إلى العامل الخارجي، فإن ترمب يواجه أزمة سياسية حادة تهدد بعزله من منصبه مما أضعف موقفه التفاوضي إلى حدود بعيدة.
يتساءل المراقب….
ماذا فعل ترمب لتصفية التركة التي خلّفها له باراك حسين أوباما بشأن مجمل علاقاته مع إيران أو فيما يخص الاتفاق النووي معها، وظل يهاجم سلفة بقسوة نادرة في تقاليد الرئاسة الأمريكية؟
قطعا لا شيء بالمرة، فأمريكا تحكمها دولة عميقة تحدد استراتيجية البلاد لعشرات السنين، وتمنح الرؤساء هامشا كبيرا من الحرية في تنفيذ مفردات هذه الاستراتيجية وليس للخروج منها أو عليها، ولكن ترمب وكلما شعر بأن مركزه الرئاسي مهدد يذهب إلى توجيه اتهامات جارحة لأوباما لم يستطع ترمب حتى بعد ثلاث سنوات من حكمه أن يثبت أنه قدم أفضل منها.
ترى ماذا كسب عرب الخليج العربي من رئاسة ترمب بعد أن مدّوا أيديهم لمساعدة الاقتصاد الأمريكي بمئات المليارات من الدولارات، أو بالتبرع لبناء قواعد جوية للولايات المتحدة، وظنوا أن ترمب نزل إليهم هدية من السماء لمساعدتهم في مواجهة المشروع الإيراني بعد أن استبشروا خيرا بحملته الانتخابية؟
ربما اكتشفوا بعد فوات الأوان أن الاعتماد على البندقية المستأجرة لن يوفر الحماية المطلوبة للأمن القومي العربي عموما ولأمن الخليج العربي خصوصا الهش بسبب ضخامة ما يزخر به من ثروات من جهة واتساع مساحته الجغرافية وضآلة عدد سكانه مما جعل المنطقة هدفا لكل قوة تبحث عن توسيع مجالها الحيوي، فتجربة الغزو الأمريكي للعراق ردا على ما قيل لاحتلاله الكويت، لن تتكرر لسواد عيون الخليجيين المشغولين بلهوهم وعبثهم بالأموال التي جاءت مصادفة إلى أرضهم حتى لو استيقظ الكويتيون يوما ووجدوا الحرس الثوري يمسك بالشوارع الرئيسة في عاصمة بلادهم، لأن حياة جندي أمريكي واحد من وجهة نظر أمريكية، أغلى من حياة كل العرب والمسلمين حاكمين ومحكومين، فغزو العراق لم يتم لأن العراق استرد الكويت، أو دفاعا عنها أو عن خارطة سايكس بيكو، وإنما لأن المخطط الصهيوني الأمريكي والمُعبّر عنه مرارا بالتصريحات والمواقف والتلميحات، كان يؤكد أن إضعاف العرب وتمزيق أوصالهم يجب أن يبدأ خطوته الأولى بضرب العراق ثم تتهاوى قطع الدومينو تباعا، وإلا هل يتوقع أحد أن الولايات المتحدة ستعيد الحشد الدولي الذي أقامته عام 1990؟ بل هل ستجد من الدول العربية من يتراصف معها كما حصل في عدوان 1991 أو 2003؟

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى