كل يوم يزداد حوارنا جمالا! والسبب يعود لتميز من نلتقي بهم من قامات أدبية عراقية، فالكاتب العراقي لديه حاسة خاصة يتذوق بها كل من الرواية والقصة القصيرة وكل اشكال الفن والأدب، والسبب يعود للأحداث صعبة التي مر بها كالصراعات والأزمات والحروب…
في أروقة الثقافة هذه المرة كانت ضيفتنا الكاتبة والروائية العراقية ناصرة السعدون، والتي تحاورنا معها بأسلوب مشوق كأسلوب كتابتها لرواياتها (لو دامت الأفياء)، و(ذاكرة مدارات)، و(أحلام مهمشة)، و(أحببتك طيفا)، و(دوامة الرحيل).
ولدت الأديبة والمترجمة العراقية ناصرة السعدون، في محافظة واسط، عام 1946، تلقت تعليمها الابتدائي والمتوسط في القسم الداخلي لمدارس الراهبات في الباب الشرقي ببغداد، وأكملت دراستها الثانوية في الإعدادية المركزية للبنات. حصلت على البكالوريوس بالاقتصاد في جامعة بغداد في عام 1966، ونالت الدبلوم العالي في الأدب الفرنسي عام 1970. عملت في العديد من الوظائف الحكومية من بينها مدير أول للدائرة الاقتصادية في الاتحاد العربي للصناعات الغذائية، ومدير عام دار الكتب والوثائق بوزارة الثقافة والاعلام، ورئيس تحرير جريدة بغداد أوبزرفر (The Baghdad Observer) لغاية عام 2003.
شاركت في العديد من الدراسات الاقتصادية ودراسات الجدوى في حقول نقل التكنولوجيا والصناعات الغذائية وتلوث البيئة. كما نشرت العديد من الدراسات والبحوث والتراجم في المجلات المتخصصة مثل مجلة النفط والتنمية، ومجلة الصناعة، ومجلة الصناعات الغذائية، والصحف والمجلات العالمية، وترجمة نحو 26 كتابا باللغة الإنكليزية. وهي أيضاً
- عضو في اتحاد الكتاب والأدباء في العراق.
- عضو مؤسس لجمعية الناشرين العراقيين.
- عضو مؤسس لمنتدى المرأة الثقافي.
- عضو اتحاد الكتاب العرب.
كما شاركت في العديد من المؤتمرات والندوات وفرق العمل الاقتصادية والسياسية والأدبية والثقافية في داخل العراق وخارجه منها سويسرا وتونس والأردن والإمارات وبلجيكا وفرنسا والمغرب وباكستان والهند وكوريا والفلبين. خلال فترة الحصار على العراق دعيت لتقديم العديد من المحاضرات والبحوث والدراسات الثقافية والسياسية والإعلامية في محافل متنوعة في العالم
التقيتها في عمّان حيث مكان إقامتها الحالية، تحاورنا ونحن نرتشف فنجان القهوة في أجواء صباحية أردنية تعطي النفس الحيوية في بداية النهار.
- سألتها عن البدايات الصحفية وعن الصحافة أيام زمان، ومن كان معك من صحفيي الأمس والبارزين اليوم؟
- أجابت … لم اعمل في الصحافة إلا بضعة أعوام قبيل الاحتلال الأمريكي للعراق 2003، في جريدة (The Baghdad Observer). أما المقالة فنشرت منها الكثير منذ سبعينات القرن الماضي في عدة صحف ومجلات مثل مجلة النفط والتنمية، العلم والتكنولوجيا، الاتحاد ومجلة الصناعات الغذائية وغيرها كما ترجمت ونشرت مقالات وكتب في صحف الجمهورية والقادسية آنذاك. لذلك لا أعد نفسي صحفية رغم أن لدي العديد من الاصدقاء والمعارف من الصحفيين.
- لو افترضنا أن الحياة هي عبارة عن محطات، فماهي المحطة التي أتعبت الكاتبة ناصرة السعدون؟
- مرحلة الاحتلال وما تلاها بالتأكيد. إذ بالرغم من صعوبات الحياة لكنها صعوبات تعاملنا معها بشكل أو باخر. اما الاحتلال فقد خيم علينا وقلب حياتنا راسا على عقب، وما زلنا نعاني من نتائجه لحد الان، سواء في داخل العراق، أو خارجه.
- متى بدأتِ الكتابة بهذا القلم المتمرّس؟ وهل للعائلة دور في ذلك؟
- بدأت الترجمة والنشر منذ سبعينات القرن الماضي، كما شاركت في كتابة العديد من الدراسات الاقتصادية وموضوع نقل التكنولوجيا خلال السبعينات والثمانينات. أما العمل الروائي فقد كَتبت ونَشرت روايتي الأولى (لو دامت الأفياء) في عام 1986. وكان لأسرتي الدور الكبير في دعمي والوقوف إلى جانبي منذ البداية ولحد الآن، الحمد لله.
- من النادر أن يبدأ الكاتب بالرواية قبل القصة القصيرة، حدثينا عن ذلك؟
- لكل من الرواية والقصة اشتراطاته فهما يختلفان جذريا، مع وجود تشابه ظاهري. الرواية كانت وما تزال شغفي الرئيس، فهي تعطي المجال الكافي لإبراز شخوصها واحداثها ومواقعها، أما القصة فهي اشبه بومضة سريعة، ما تكاد تلامسها حتى تختفي. لهذا لم أحاول يوما كتابة القصة وقد لا أجيد هذا الفن الرائع للأسف، لكني أقدره حق قدره. المسألة أولا وأخيرا هي اختيار نمط التعبير عن الذات، وبالنسبة لي أجد نفسي في الرواية، وليس في القصة أو الشعر.
- حضرتك تكتبين الرواية بشكل مختلف عن باقي الكتاب كأنها معادلة حب وحرب، كيف ذلك؟
- بل الحياة هي معادلة الحب والحرب، بالأخص حياتنا. فكيف لكاتب أن يتجاهل الأحداث التي تدور حوله وتشكل حياته؟ طيلة حياتنا كانت الحرب حاضرة، وكذلك الحب. هل ثمة حياة تخلو من الحب؟ الجندي على الجبهة يحمل صورة حبيبته في جيبه الايسر، لعلها تحميه من رصاصة غادرة، وكل الرصاص غادر. وأنا اكتب بعض صور حياتنا، وهي مليئة بالحب والحرب، فكيف أكتب غير ذلك؟
- الذكريات دوما ترافقنا عندما نكبر بالعمر، فما هي أجمل ذكريات الكاتبة ناصرة السعدون؟
- حين نكبر، كل ذكرياتنا جميلة، من الطفولة المبكرة على ضفاف نهر الغراف، مرورا بأيام المدرسة الداخلية في راهبات الباب الشرقي، ثم الاعدادية المركزية في شارع الرشيد، والجامعة وما بعدها. صور اطفالي عند ولادتهم هي أحلى ما في الحياة، وقد كبروا وصار لهم أطفال بدورهم، هم أعز عندي من الحياة ذاتها. أتذكر لحظات ولادتهم، وابتسم، ما أسرع ما تمر الاعوام. ذكريات الكتب التي اقتنيتها والكتب التي عشقتها، ومكتبتي التي نَمت بمرور الأيام، ثم اهديتها قبيل مغادرة العراق بعد الاحتلال. ذكريات عمر طويل لا يمكن اختصارها.
- كل رواياتك تتحدث عن مراحل في حياة الشعب العراقي الجريح من حروب وحصار واحتلال، كأنما تعلّقيه على قلبك أينما ذهبت؟
- بل العراق في قلبي حيثما أكون. انا جزء من هذا الشعب الذي عانى ويلات الحروب ثم الحصار وبعدها الاحتلال. فالعراق هو يشكل كينونتي وكل حرف اكتبه إنما هو نزف الالم الذي عشناه والعشق لهذا التراب الذي روته دماء الشهداء. لا قيمة للكتابة إن لم تكن عن هذه الارض التي أكرمنا الله بها.
- هل يوجد رواية تجدينها جزءاً منك، أي تتحدثين فيها عن نفسك؟
- كل اعمالي الروائية هي جزء مني. حين اتحدث بلسان أحد شخوصها أجد نفسي متماهية مع الشخصية وأصير جزءا منها. كل رواية هي افكار تتجسد في شخوصها واحداثها، وفيها رسالة الى المتلقي. عسى ان تكون رسائلي قد وصلت.
- ألم تفكري يوماً بكتابة مذكرات عما شاهدته من أحداث مهمة في الحياة؟
- ما شاهدته من احداث رويته في اعمالي الروائية، ولا أرى حاجة للمذكرات لحد الآن.
- لكل كاتب طريقة معينة في الكتابة يختارها حسب الميول والرغبات والخيالات الخاصة به لكن حضرتك تكتبين بشكل أشبه بسرد الأحداث التاريخية، فماذا تقولين؟
- الأحداث التاريخية هي الجزء الأساس من حياتنا، وحين استحضر هذه الأحداث، واتذكرها، تحضرني شخصيات تتحول بفعل الخيال إلى شخوص للرواية. منها تتناسل الاحداث وتتشكل الرواية وتأخذ مسارها.
- عنوان الرواية، في أي مرجلة من الكتابة تستنبطينه؟
- اختيار عنوان الرواية هو أصعب مرحلة. وأظل أعاني حتى اللحظة الأخيرة قبل إرسال العمل الى الناشر. باستثناء رواية (أحببتك طيفا) التي بدأت باختيار العنوان، ومنه تسلسلت احداث الرواية.
- مدى تأثير تقنية الحاسوب على نمط كتاباتكٍ؟ أم لا يزال فعل الورقة والقلم له تأثيره؟
- تقنية الحاسوب لا تؤثر على نمط الكتابة، بل تساهم في تسهيل عملية نقل الافكار. أفضل استخدام الحاسوب في الكتابة، لأنه يسهل عمليات الشطب والاضافة، خلال الكتابة. أكره ما أكرهه هو الورقة التي تتمزق لكثرة الشطب، والأسهم المؤشرة إلى الإضافات. لهذا أجد الكتابة بالحاسوب أكثر سلاسة في التعبير والتغيير. لكني ما ازال احتفظ بالورقة والقلم على مكتبي وقرب سريري، احيانا (أخربش) بعض الافكار، في الظلام لكيلا انساها بعد أن تشرق الشمس، فهي احيانا، أشبه بالرؤى وسرعان ما أنساها بعد حين.
- يقول المفكر جورج برناردشو (كل انسان هو جزء مما يقرأ) فهل توافقيه الراي؟
- نعم أوافقه الرأي، إذ مع كل قراءة جديدة تتوالد أفكار جديدة، وتتراكم لتشكل رؤانا في الحياة.
- ماذا بعد (دوامة الرحيل)؟
- لا أدري. إذ لا اخطط مسبقا، كما لا احدد مدة زمنية بين كتاب آخر. حين تكتمل فكرة الرواية في ذهني، واقتنع بفكرتها، أضعها على الورق.
- عندما تزورين بغداد، فما هو أول مكان تفكرين بزيارته؟
- بيتي، هذا أن كتب الله لي أن ارى بغداد قبل نهاية حياتي. أحن إلى بغداد كلها. دجلتها، بيوتها، شوارعها وجوه اهلها الطيبين.
- أي روائيين تأثرت بهم الكاتبة ناصرة السعدون في بداية حياتها الأدبية؟
- كل من قرأت لهم تركوا اثرا في حياتي. لكني حين بدأت الكتابة الروائية، لم أعمد لتقليد أي كاتب، سواء في الاسلوب أو المسار. لكنهم بالتأكيد شكلوا الارضية التي انطلقت منها للكتابة.
- هل العمل في الصحافة يقود حتماً للكتابة بأسلوب أدبي، أم للموهبة شأن آخر؟
- كما ذكرت في بداية الحوار، أنا لم أعمل في الصحافة، بل عملت في مجال تخصصي، وهو الاقتصاد، ومنه الى الترجمة، والنشر في المجلات والصحف، وبعدها قررت كتابة الرواية. بالتأكيد العمل الصحفي يصقل الاسلوب ويطور معارف الصحفي، لكن الموهبة هي ما يدفع المرء للعمل الروائي، وإلا لتحول آلاف الصحفيين إلى روائيين.
- مدى تواصلك مع الحركة الأدبية الشبابية في العراق وأشخاصها؟ وكيف تجدينها؟
- منذ الاحتلال أنا بعيدة عن العراق، لكني أتابع ما يكتب وينشر عنه. أتمنى أن يكون الشباب أكثر اهتماما بالثقافة والعلم، لكني أعرف أن اشتراطات الحياة الصعبة التي يعيشها العراقيون بعد الاحتلال قد أبعدتهم الى حد ما عن الثقافة والعلم.
- برأيكٍ، ما الذي يمنع أو يقيّد الصحفي من التواصل مع مهنته الشاقة؟
- الصحافة أصلا هي مهنة شاقة، لهذا سميت مهنة البحث عن المتاعب. وما يزيدها صعوبة هو هامش الحرية المتاح للصحفي. إذ كيف يمكن للصحفي كتابة ما يريد وهو يعرف مسبقا ان حياته معرضة للخطر جراء ما يكتب. هل نسينا أطوار بهجت؟ وما يزال دماء علاء المشذوب تنادي. هذه امثلة بسيطة عن حال الصحافة في عراق الاحتلال.
حوارنا يتجدد دوما معكم في أروقة الثقافة العراقية والعربية … ولكم مني خالص الود