في الذكرى الأولى لرحيل الاقتصادي نمير قيردار

نجيـد فتحـي صفوة

في الثامن من شهر حزيران 2020، سـكت قلب كبير، كان ينبض بالطيبة والمحبة والعطاء، ونشاط فكـري خــــلّاق  لم  تتوقف حتى اليوم الأخير من حياة  نميـر أمين قيـردار رحمه الله، الذي كان من أقطاب المستثمرين العرب، واشتهرت مؤسسـته في عالم الاقتصاد باسـم انفستكورب (Investcorp)، ووظّف قسم من مواردها لدعم مراكز الدراسات العلمية والجامعات الشهيرة في العالم، وساهم في مجالسها الاستشارية، ومنها جامعتي جورج تاون وهارفرد الأمريكيتين، وكامبردج البريطانية، ومركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن، كما كان عضواً في  مجلس إدارة (المنتدى الاقتصادي العالمي)  في سويسرا الذي يستقطب رؤساء حكومات ومسؤولي الاقتصاد والمال في كثير من الدول. ومن المواقع المهمة التي شغلها، مجلس الاستثمار التابع للأمم المتحدة في نيويورك. 

إن فقـدان تلك الشخصية الفـذّة كانت فاجعة كبرى، وبالأخص لرفيقة حياته السيدة الفاضلة نـدى عدنان شاكر، التي كانت خلفه دوماً في معترك الحياة، كما أمتـدّ ذلك الحزن إلى منتسبي المؤسسة التي بناها وقادها على قيم أساسية من الثقة والنزاهة لمدة خمسة وثلاثين عاماً، ولاريب فأن ذلك الحدث المؤلم قـد أمتـد إلى أصدقائه ومعارفه لِما كان يمتلكه من روابط شخصية وثيقة مع الكثير من الشخصيات المهمة في عالم السياسة والاقتصاد.

مقالات ذات صلة
آخر صورة للراحل نمير قيردار في له مع كاتب المقال

كان رحمه الله أحد أقرب أقربائي وصديق طفولتي وصاحبته في صباي وشبابي، وعندما بلغني خبر نعيه انتابني حزن عميق وأسف كبير، وكان الحدث أشـبه بصاعقة نزلت عليّ، وأنا في عزلة الوباء المستشري في العالم الذي حال دون حضوري تشييعه الى رحمة الله.  

    ومن خلال صلتي التي ذكرتها، أحاول فيما يلي أن أبيّن ما أعرفه عن بعض جوانب حياته الحافلة بالمثابرة والمتغيرات. فقـد ولـد نمير قيردار في مدينة كركوك سـنة 1936، ونشـأ في بغداد في كنف عائلة كانت تمثل لواء (محافظة) كركوك في مجلس النواب العراقي تولاها جـدّه محمد جميل، ثم والـده أمين قيردار، كما كانت للعائلة صلة وثيقة بالعوائل الوجيهة في بغـداد، ومعرفة حميمة مع العائلة المالكة منذ العهـد العثماني عندما كان جـده (لوالدته) محمد علي قيردار، والأمير فيصل (الملك فيصل الأول) زملاء في عضوية مجلس المبعوثان العثماني.  

في طفولته درس نمير، المرحلة الابتدائية في مدرسـة السعدون النموذجية ببغداد، وأنهى دراسته الثانوية فيما يعرف بـ (كلية بغداد) والتحق بعدها بكلية (روبرت) الأمريكية في إسطنبول، ثم غادرها لإكمال تحصيله في الولايات المتحدة، حيث درس علم الاقتصاد في جامعــــة (باسفيك) وإدارة الأعمال في جامعة (فوردهام) ثم أكمل برنامج الإدارة العليا في جامعـــة (هارفرد)، ومنح فيما بعـد ثلاث شهادات دكتوراه فخرية من جامعات في واشنطن وكاليفورنيا ولندن. وخلال أنخرطه في العمل المصرفي في نيويورك تدرّج في عدّة مناصب في البنوك وأنضم أخيراً الى بنـك (تشيس مانهاتن) الذي يعرف بكونه أشـهر مؤسـسة مالية في عالم الاقتصاد، وبعـد سنتين أعار البنك خدماته كاستشاري إلى صندوق النقـد العربي الذي تأسـس في أبو ظبي، وبانتهاء مهمته بادر الى تأسيس كيان مالي أشتهر باسـم (أنفستكورب) وتوسع نشاطه ليمتلك أهم الشركات العالمية مثل مجموعة (كوتشي) و(تيفاني) و(فيفث أفينيو).

    إن نمير قيردار (رحمه الله) الذي أحتل مكانة مرموقة بين كبار المستثمرين في العالم، وساهم في تمويل أهم الجامعات ومراكز الدراسـات العلمية- كما ذكرت – ظلَّ محباً لوطنه العراق ومخلصا للعهـد الملكي الذهبي الذي بقي ماثلا في فكره ووجدانه، مما دفعـه لتأليف كتابه الذي حمل عنوان (إنقـاذ العـراق) حيث تولت نشره (دار السـاقي) في بيروت سـنة 2010، وفي الكتاب نجـد بأنه وضع  برنامجاً لنهضة سياسية واقتصادية واجتماعية، ويدعو لقيام نظام ليبرالي وديمقراطي في العراق ، وفصل الدين عن السياسة وإلغاء الدستور الحالي تمهيدا لمرحلة اصلاح جذري، وأضاف بأن العراق الذي عانى من النظم الدكتاتورية التي قادت الى خراب شامل وحروب مدمّرة، وصولاً إلى الاحتلال الأمريكي عام 2003 ، الذي أدى الى مزيد من الفوضى والعنف والتفكك تحت شعارات موهومة، وإذا لم يبادر الحكام لتلافي ذلك فأن البلاد ستتفكّك تحت ضغوط الصراعات القبلية والعرقية والطائفية …! واليوم وبعـد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب، نجـد صحة ما ذهب اليه وما حصل من وضع متردي وتراجع مأسـاوي.  

بعـد سنتين من صدور كتابه الأول صدر له كتاب ثاني باللغة الإنكليزية ونشرت ترجمته (دار الفارس للنشر والتوزيع في عمان)، حملَ عنوان (نحو تحقيق الأماني). استعرض فيه سيرة حياته منذ الطفولة، وقدّم فيه ثلاث صفات شكلت أساس حياته؛ هي المبدأ، والعزم، والتصميم، وعلى هذا الأساس يروي الصعوبات والانتصارات التي تخللت إنشاء مؤسسته وتصميمه وإصراره على ازدهارها بعـد أن مرت بمراحل الصعود والإحباط ثم النجاح الكاسح.  

ومن المؤشرات التي وردت في الكتاب اعتزازه بجنسيته وجواز سـفره العراقي  الذي كان يحتفظ به على الرغم من العراقيل التي كانت تواجهه بدواعي السـفر، وإمكانية حصوله على جواز آخر غير العراقي نظراً لما كان يملكه من علاقة وثيقة بالملك حسين، ملك الأردن والأمير تشارلز، ولي عهد بريطانية، ومارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، والملك عبد الله الثاني ملك الأردن وغيرهم، إذ يلاحظ القارئ في الصفحة (217) من الكتاب جملة عرضية ذكر فيها: (كانت المشكلة هي حصولي على سـمة سـعودية وبما أنني أحمل جواز سفر عراقي كنت أرى وجوها عابسة من كل موظف أراجعه).

لقاءاته مع عدد من زعماء العالم

وهنالك الكثير ما يمكن استذكاره عن نمير قيردار، الذي لمع نجمه بين كبار المستثمرين العرب والأجانب، وتوطدت علاقاته مع مشاهير الشخصيات في العالم، لما كان يتحلى بـه من فكـر ثاقب وطيبة في التعامل وتواضع جمّ، وسخاء بكل ما يتطلب لدعم المؤسسات العلمية والثقافية.

رحمه الله، وعطر بالطيب ثراه، وأسكنه فسيح جناته، إنه سـميع مجيب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى