في العراق حتف المشروع الإيراني

ينسب إلى معاوية بن أبي سفيان أنه أوصى ابنه يزيد قبل وفاته، وصية يشكك في صحتها بعض المؤرخين، ومع ذلك فليس هناك ضير من الإشارة إلى ما جاء فيها بشأن العراق، فيوصي ابنه قائلا:
“انظر إلى أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عاملٍ أحبُ إليّ من أنْ يُشهرَ عليك مائة ألف سيف”.
من المعروف أن معاوية بن أبي سفيان لم يعشْ في العراق ولم يخالط أهله، ولكنه عَرف طبيعتهم ومزاجهم الحاد والمتقلب وسرعة تغييرهم لولاءاتهم من “مع” إلى “ضد” وبنفس القوة بين الضدين ويبدو أن هذه الطباع قديمة قدم نشوء أول تجمع بشري فوق أرض ميزوبيتاميا، كما أن معاوية كوّن ذلك التصوّر من خلال الأحداث التي سبقت قيام الدولة الأموية وبعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وخاصة دورهم في مقتل الخليفة الثالث ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم من انحيازهم إلى صف الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في معركة الجمل ثم معركة صفين، وخروجهم عليه وبقوةٍ شتتْ جيش علي وأضعفته وهو ما أدى إلى نشوء حركة الخوارج التي ناصبته العداء حتى استشهاده في مسجد الكوفة.
وتأكد مزاج العراقيين المتقلب من خلال مبايعتهم للحسين رضي الله عنه وإرسالهم المراسيل له للقدوم إلى الكوفة وأعلن الآلاف منهم الوقوف معه ونصرته للتصدي للدولة الأموية، ولكنهم وعندما حمى الوطيس انفضوا عنه وخذلوه ولم يرعوْا فيه مكانته من بيت النبوة وأنه سبط الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد استشهاده، شعروا بوطأة ما اقترفوه من ذنب، فثاروا على أنفسهم بعد فوات الأوان واستهدفوا القادة من قاتليه، ولكنهم أخفقوا في كل ثوراتهم على الدولة الأموية.
ثم اصطف العراقيون إلى جانب ثورة عبد الله بن الزبير وساندوا أخاه مصعب بن الزبير ولكنهم خذلوه أيضا، بعد أن شهدت الكوفة اضطرابات حادة أعقبت استشهاد الحسين رضي الله عنه كحركة المختار الثقفي والتوابين التي تعبر عن الجزع لخذلان العراقيين للحسين وشعورهم بتأنيب الضمير.
ولم تتوقف عجلة تقلب مزاج العراقيين عن الدوران حتى يومنا الراهن على الرغم من تغيّر توجهات الدول والنظم السياسية التي مرت عليهم، وإذا ما قفزنا على مراحل التاريخ القديم والوسيط وأجرينا مسحا سريعا لمجريات أحداث العراق منذ 14 تموز 1958 وحتى اليوم، نرى أن العراقيين كانوا يؤلهون قادتهم وزعماءهم السياسيين على نحو لا تعرفه معظم دول العالم وشعوبه، حتى إذا انقلبوا عليهم سحلوا جثثهم في الشوارع، مما يسمح للمراقب والمؤرخ المستيقظ الضمير والعقل أن يُصدر حكما موضوعيا وعادلا يصلح لبناء موقف عليه تستطيع الأجيال اللاحقة تكوين فكرة ناضجة عن أحداث المرحلة، كثير منا من كبار السن ممن عاش تجربة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم وكيف كون شعبيته الجارفة وانضمام أعداد هائلة من العراقيين إلى صفوف الحزب الشيوعي وكيف صوّر كثيرون أن صورة الزعيم ظهرت في القمر وأن اسمه وصورته ظهرت داخل بيضة دجاجة وإلى آخر هذا الأساطير والأكاذيب الرخيصة التي افتراها بعض الدجالين المرتزقة من الذين أخذهم وهمهم إلى رسم صور لا تمت إلى الواقع بصلة، ولكن ذلك سرعان ما انهار فجأة إذ بمجرد قيام ثورة 8 شباط 1963 تغير كل شيء فيعرف العراقيون الذين عاشوا تلك الفترة ماذا حصل وكيف تحول الولاء من المقاومة الشعبية إلى ولاء مضاد وحاول كثيرون التكفير عن انتمائهم للمقاومة الشعبية بالانضمام إلى الحرس القومي.
على العموم لا أريد الاسترسال في عرض هذه القصص المحزنة، ولكنني أقفز على المراحل واستذكر شهر تموز 1982 عندما زار معسكر أسرنا “قصر فيروزة” رئيس لجنة شؤون الأسرى العراقيين في معسكرات الأسر الإيرانية العقيد نور الدين شريف عسكري، في تعنيفه لضابط عراقي أسير سأله من أين أنت، وعندما قال له أنا من النجف، قال له لعنة الله عليكم أهل الكوفة أنتم قتلة الحسين.
من حق الباحث المنصف أن يسأل هل أن إيران درست طبيعة العراقيين دراسة علمية حقيقية على المستويين التاريخي والاجتماعي كي تطمئن إلى أنها قادرة على تطويع العراقيين وإذلالهم إلى الأبد؟
إيران تستسهل الوصول إلى أهدافها بأقل التكاليف وتراهن على قدرتها في تكريس وجودها من خلال البناء الفكري والعقائدي للفقه الجعفري الاثني عشري ونشر بدعة ولاية الفقيه وتعطيل المدارك والعقول وتأجيج العاطفة فقط.
إيران لا يمكنها أن تفعل ذلك من خلال الطبقة الحاكمة في العراق والتي ساهمت هي محوريا بتنصيبها على رأس العراقيين، بسبب مستوى الإدراك العلمي والعقلي الهابط لها، كذلك فإن طبقة رجال الدين المشغولة بقضايا النفاس والحيض ومنقضات الوضوء ووجوب الغسل بعد الجنابة وطرق الاحتيال من أجل الافطار في شهر رمضان والتركيز على تكفير أتباع المذاهب الأربعة والنيل من رموز الإسلام العظام، فهذه الطبقة لا تعنيها دراسات المجتمع، بل إن واجبها يتلخص في إشاعة الجهل على أوسع رقعة في البيئة التي تتحرك فيها ضمانا لاستمرار سطوتها المعنوية واستحواذها على الخُمس والأموال الشرعية الأخرى، ولهذا كانت دراسة إيران قاصرة من الناحية العلمية عن حقيقة المجتمع العراقي، فاعتمدت على سياسة التجهيل طريقا للوصول إلى أهدافها البعيدة.
ولو عدنا قليلا إلى الوراء فسوف نكتشف أن عدة قرون من السيطرة العثمانية على العراق لم تنزع عنه طابعه الاجتماعي، كما أن الاحتلال البريطاني أخفق في تدجين المجتمع العراق على وفق المقاسات البريطانية على الرغم من معرفتنا بالدهاء الذي تتمتع به بريطانيا في مستعمراتها، إذ حققت نجاحات في شبه القارة الهندية وجنوبي آسيا وكذلك في المستعمرات البريطانية في أفريقيا وعدد سكانها يزيد بمئات الأضعاف على سكان العراق وأصبحت اللغة الانكليزية هي اللغة الرسمية أو لغة التخاطب الجامعة للمكونات في تلك الدول، فحافظ العراقيون على هويتهم الخاصة رغم كل محاولات مسخها.
أما الولايات المتحدة فبكل جبروتها عندما غزت العراق عام 2003 وبمساعدة لم تعد مخفية من إيران، ودول الجوار الخليجي العربي، وبتزيين الأمر من جانب ما يسمى بالمعارضة العميلة، اكتشفت وعلى الرغم من كل ما تمتلكه من مراكز دراسات وفلترات للأمن القومي الأمريكي وأجهزة كومبيوتر، أن وعود العملاء بأن العراقيين سينحرون الذبائح تحت سرف الدبابات وسيلقون الزهور على جنودها، كانت خديعة كبرى، فقد انطلقت أسرع مقاومة لأي شعب تم احتلال أرضه، وكبدت القوات الأمريكية خسائر زادت عن خمسة آلاف قتيل وفقا لأرقام وزارة الدفاع الأمريكية، من غير الخسائر في الأموال والمعدات وعشرات آلاف من الجرحى والمعاقين الذين يحتاجون إلى رعاية حكومية دائمة حتى موتهم.
فهل تشكل إيران استثناء من بين المحتلين جميعا وتتمكن من البقاء في العراق؟
من بين المعتقدات التي يروج لها الإيرانيون ويحاولون فرضها على عموم الشيعة في العالم وفي العراق خاصة، أنهم يقولون من دون مواربة أن من يخالفهم الرأي أو يخرج على ولاية الفقيه أو يحتج على النفوذ الإيراني والممارسات والتقاليد الغريبة والهجينة عن المجتمعات الأخرى، منحرف وخارج عن المذهب، أي بعبارة أخرى سيكّفرونه ويخرجونه من الملة، وهذا ولا شك سيف مسلط على رقاب الناس وخاصة الشيعة منهم، مما يجعل بعض البسطاء في حالة صراع داخلي عن صواب ما اتخذوه من موقف مغاير لموقف إيران.
هنا علينا أن نتوقف عند نقطة في غاية الأهمية تتعلق بطبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة في جنوب العراق ذي الأغلبية الشيعية، ففي مدن الجنوب كما في كل أرجاء العراق تستوطن عشائر عربية أصيلة ذات تقاليد تبلورت مع الزمن وأخذت طابعها الحالي، شرف ونخوة وإباء وكرامة ولهذه العشائر فروع في بغداد وتنتشر في معظم المدن العراقية، وهي على استعداد للتضحية بآخر رجل من رجالها دفاعا عن قيمها واعتزازها بكرامتها، فماذا لو أن الإيرانيين حاولوا التمدد على المجتمع العراقي العشائري في الجنوب في غير ما يطرحونه من شعارات عن حب الحسين والولاء لآل البيت؟ وحاولوا نشر ممارسات أخرى ماسة بالكرامة والكبرياء العربي مثل زواج المتعة؟ وهل يقبل واحد منهم لأمه أو زوجته أو ابنته أو شقيقته أو إحدى محارمه أن تعرض عليها هذه الممارسة المخلة بالشرف والتي لا يغسل عارها إلا الدم على وفق التقاليد العشائرية؟ مؤكد أن العربي لن يقبل أبدا ممارسة لا أخلاقية مثل هذه، وسيرد عليها بانتفاضة عامة لن توقفها محاولات التخدير المعتمدة في قاموس الفرس على مر التاريخ.
ربما تنظر إيران بعين الرضا إلى ما حققته من نتائج في العراق والاسترخاء، وتذهب إلى أنها حسمت المعركة بصورة نهائية، ولكنّ العراقيين يصبرون طويلا ويكدسون غضبهم ويتحملون الضيم زمنا طويلا، ولكنهم عندما ينفجرون يزيلون كل ما أمامهم من مصدات، مثل سد عظيم انهار فجأة فجرف أمامه كل ما يصادفه من بناء، حتى يترك كل ما وراءه ركاما، وهنا يذهب المراقب إلى القول بأن الشعب العراقي شعب ثائر على الحق والباطل معا.
لكن علينا أن نعترف أن المواجهة مع إيران تختلف عن أية مواجهة أخرى، فإيران التي تزعم تمثيلها للشيعة، وتبنيها لولاية الفقيه، تضع العراقيين الشيعة في امتحان صعب، وهو المخايرة بين الوطن أو العقيدة الدينية التي بذلت إيران ما في وسعها من أجل غرسها في نفوس البعض منذ مئات السنين، نعم يمكن أن يقول محتج على هذا القول إن العراقيين قاتلوا إيران ثماني سنوات متصلة حتى ألحقوا بها الهزيمة وجرّعوا قائدها كأس السم، نعم هذا صحيح، ولكن هناك فرقا شاسعا بين نظام سياسي قوي وفيه جيش وطني ملتزم بقواعد الضبط العسكري ومن يخرج عليها يتعرض لأقسى العقوبات العسكرية، وبين كيان من دون هوية فاقد لشرعيته وسيادته تسيطر إيران فيه على كل مفاصل الدولة بإحكام ونشرت فكرها وممارساتها حتى داخل المؤسسات السياسية والعسكرية وبالتالي هناك من سيقول إن الخروج على إيران هو خروج على الإسلام، لقد قاتل العراقيون في القادسية الثانية ضمن قواعد الانصياع للقوانين العسكرية الصارمة، هنا سيكون الاختيار صعبا، لأن الشيعي البسيط سيكون كمن يخرج على القوانين الاجتماعية وعلى المعتقدات الدينية معا، وسيحاسب دنيويا بإخراجه من الملة، لينتظره العقاب الرادع من قبل السلطة الحاكمة والمؤسسة الدينية، وأخرويا بدخول النار بسبب كفره ورِدته.
ومع كل ذلك فإن العراقيين العرب الأصلاء وخاصة في الجنوب، سيكونون طليعة الثورة على الإيرانيين الأغراب المحتلين، وحينها لن تنفع إيران شعاراتها المذهبية التي حاولت من خلالها تحويل سكان البلد إلى تابعين لها وأدوات لمشروعها، من دون وعي، كما تريد إيران أيضا زرع بذور الفتنة بين أبناء الوطن الواحد تمهيدا لتلقي إليهم قارب النجاة من غرق هي التي ألقتهم في يمّه وتعرض نفسها كوسيط مطلوب في أزمات من صنعها.
هل تدارست إيران ما حصل في العراق في تشرين أول/ أكتوبر 2019، ودلالاته العميقة في رفض الوجود الإيراني في العراق، وبخاصة أن الشطر الأعظم من المتظاهرين هم من الشيعية، وهم من شريحة عمرية بين 18 و25 عاما، أي أن هؤلاء بلغوا عمر إدراك ما يحيط بهم وتشبعوا بالشعارات الطائفية التي تنفثها إيران بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 ومن ثم تسليم العراق هدية مجانية لإيران، ومع ذلك رموا بكل ما حاولت إيران زرعه فيهم، واستردوا وعيهم في لحظة فاصلة من عمر الزمن.

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى