كان الرئيس المصري أنور السادات قد حدد عام 1971 عاماً للحسم في المواجهة مع إسرائيل وفي قضية الاحتلال الصهيوني لسيناء، وانتهى عام 1971 من دون أن يحصل شيء على خط المواجهة، كانت قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى وطنيا ًوقومياً وإسلاميا ًعلى مدار ساعات اليوم، لأن قضية فلسطين كانت الشغل الشاغل الوحيد المحرك للمواطن العربي، فلا الرياح الصفراء التي عصفت بالمنطقة وأمن العالم والتي رافقت الخميني في رحلته عبر طائرة أير فرانس من باريس إلى طهران ولا شعاراته سيئة الصيت بتصدير الثورة قد فرضت الفوضى وأجهزت ْعلى وحدة الرأي العربي الواحد في قضية فلسطين، ولا قضية الاحتلال الأطلسي الإيراني للعراق والذي أدى إلى أكبر حالة استقطاب شطرت العرب إلى فريقين، ولا قضية لبنان بما فيها حربه الأهلية واحتلال إيران الفعلي له فيما بعد ما يوسع دائرة الاجتهاد والصراع بين من يعتبر حزب الله اللبناني قضية مقاومة وممانعة ومن يعتبره مجرد أداة رخيصة بيد إيران لطعن الحق العربي في خاصرته، ولا سوريا التي دمرتها المنظمات الإرهابية التي شكلّتها إيران وحولتها إلى ركام بعد عمران يشدّ إليه الأنظار، ولا اليمن تحت طائلة الفوضى التي صنعها الحوثيون، كانت فلسطين قضية العرب الأولى والوحيدة التي يلتقي عندها العرب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
لهذا أصيب الشارع العربي بصدمة عندما انتهى عام 1971 ولم تطلق على جانبي قناة السويس إطلاقة واحدة، وقال السادات حينها إن الحرب التي شهدتها منطقة شبه القارة الهندية وهزيمة باكستان فيها ونشوء دولة بنغلاديش على أشلاء الدولة القديمة، كان سببا في تأجيل معركة العرب من أجل التحرير كي لا ينشغل العالم في قضيتين في وقت واحد.
تحرك العراق المشغول بالهم العربي شعبيا ورسميا، من أجل تحقيق وحدة الحد الأدنى بين النظم الرسمية المتباينة التوجهات، مع أنه لا أرض وطنية محتلة له ولا انتفاع له من أية مواجهة، بل هو مشروع تضحية واستعداد للبذل في المعركة.
يوم 21 آذار 1972 كان صدام حسين يغادر بغداد في طريقه إلى دمشق عارضا على حافظ أسد استعداد العراق للانخراط في مواجهة ضد العدو، ولكن حافظ أبى إلا أن يكون كما هو، ففشلت الزيارة في تحقيق أي من أهدافها، بعد ستة أيام من الوعود المخادِعة التي جُبل عليها بائع الجولان، وكنت رئيس البعثة الإعلامية المرافقة لنائب رئيس مجلس قيادة الثورة، اضطر الوفد العراقي إلى مغادرة دمشق بعد ستة أيام من مناورات شارك بها نائب الرئيس محمود الأيوبي ورئيس الوزراء عبد الرحمن خليفاوي وإبليس النظام السوري عبد الحليم خدام وزير الخارجية، ففي يوم 26 آذار 1972 غادرت الطائرة بنا إلى القاهرة، كان معظم أعضاء الوفد العراقي الذي رافق النائب في زيارة دمشق قد عاد إلى بغداد لتباين تفاصيل الزيارتين، وبعد رحلة مريحة في طائرة الترايدنت وصلنا مطار القاهرة الدولي وكان في استقبال نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، الدكتور محمود فوزي نائب رئيس الجمهورية والدبلوماسي المصري المخضرم والقدير، ومن مفارقات الاستقبال أن السلام الجمهوري العراقي كان هو نفسه السلام الجمهوري المصري وهو مقتبس من أغنية وطنية لأم كلثوم تحت عنوان (والله زمن يا سلاحي) وكان العراق في حكم البعث قد ورثه من الحقبة السابقة لثورة 17تمو/ يوليو 1968 ولم يشأ تغييره على عجل بل انتظر حتى ترسخت أقدام التجربة، يوم وصولنا إلى العاصمة المصرية لم يكن الرئيس المصري أنور السادات في القاهرة، أقام نائب الرئيس في قصر الطاهرة، وهو من القصور الملكية القديمة الفخمة والأنيقة التي ورثتها مصر الجمهورية عن النظام الملكي، وحافظ المصريون عليها واهتموا بها، وجعلوا منها مقراًلإقامة كبار ضيوف مصر، وأقام النائب في جناح في الطابق العلوي وأقامت البعثة الإعلامية المرافقة في جناح أرضي، وبعد سلسلة لقاءات مع مسؤولين مصريين، ومباحثات مع الدكتور محمود فوزي في قصر القبة، لم يكن هناك جدول أعمال محدد للمباحثات، وظل الوفد في القاهرة بانتظار عودة الرئيس السادات إلى القاهرة، في صباح اليوم الثالث للزيارة استدعاني السيد صدام حسين، قال، هيئ نفسك، سترافقني لمقابلة الرئيس السادات، خرجت ولم يكن مطلوبا مني إلا قلمي وهو في جيبي دائما وبعض الأوراق، بعد قليل جاءت السيارات وركب مع النائب مسؤول مصري كبير ومرافقه صباح مرزة، وركبت سيارة أخرى مع مرافقين أمنيين مصريين، ومع الوقت وجدت أن الموكب يتجه إلى مطار القاهرة، ولكن السيارات انحرفت نحو اليمين، ودخل الموكب في قاعدة ألماضة الجوية القريبة من مطار القاهرة الدولي، وركبنا طائرة عسكرية روسية من نوع أنتينوف، في الطريق إلى المقر المؤقت للسادات الذي يتابع منه وضع القوات المصرية المرابطة على خط الجبهة، لم تستغرق الرحلة طويلا، فقال قائدها نحن الآن قريبون من القاعدة الجوية قرب الإسكندرية، بدأت الطائرة تدرج على أرض القاعدة، وبعد أن اقتربت من بناية قصية وصغيرة إلى حد ما، توقفت الطائرة تماما ونزلنا منها جميعا ومن مسافة تقرب من عشرة أمتار شاهدت الرئيس أنور السادات وبطريقته المعتادة، يخرج ملوحاً بكلتا يديه ويقول بصوت عال (مرحبا يا سي صدام ) وظل يكرر هذه العبارة لعدة مرات حتى تعانقا، وسلمنا على الرئيس المصري، واقتادنا الرئيس السادات إلى البناية الصغيرة التي خرج منها لتوه، وربما تخيلت لأول وهلة أنها مكتب آمر القاعدة الجوية.
بطريقة رجال البروتوكول أشار السادات لصدام حسين أن يدخل الغرفة، ودخل بعده، ولما لم أجد من يمنعني من الدخول وراءهما فقد سارعت لأنفذ ما عقدت العزم عليه، لم تكن لي صفة أقدمها للرئيس المصري، وبالتالي فهو لم يعرف ما إذا كنت مرافقا لصدام حسين أو لا، ولكنه نظر إلي باستغراب ولم يعلق بكلمة وإن أحسست أنه رغب بألا أكون في القاعة بسبب طبيعة الموضوعات التي يريد مناقشتها مع صدام حسين، أما صدام حسين فقد كان بإمكانه أن يخرجني بإشارة من عينيه، ولكنه لم يفعل ربما لأنه أراد توثيق الحوار من جانب العراق لجلسة منفردة بينهما، فتشجعت على مواصلة التقرب عن كثب من موقع القرار، بقيت واقفا حوالي ساعة من زمن ملئ بكل ما هو مثير من الموضوعات الحساسة التي تناولها الاجتماع الثنائي.
بدأ الرئيس السادات بكلمة مجاملة وترحيب حار بالسيد صدام حسين، ورد عليها النائب بكلمة أكد فيها دور مصر في معارك الأمة العربية وثقلها النوعي فيها، وتنوع الحديث بين استذكار حياة صدام حسين في القاهرة ردحاً من الزمن، والعلاقات الثنائية بين البلدين، لكن الرئيس المصري بعد ذلك التقط الحديث حول حتمية المواجهة مع إسرائيل لتحرير الأرض المحتلة وشدّد على أن الاتحاد السوفيتي خذلَ العرب على الدوام ولم يوفر لهم الأسلحة الهجومية القادرة على دحر القوات الإسرائيلية، وحاول تبرير سياسة القطيعة المصرية مع الاتحاد السوفيتي، ولكنه أكد على عزم مصر استرداد كرامتها الوطنية وإزالة الاحتلال الإسرائيلي من سيناء وإعادة قناة السويس للسيادة المصرية، وطلب السادات بصراحة تامة من صدام حسين إرسال أسراب من طائرات الإسناد الأرضي من نوع هوكر هنتر البريطانية الصنع التي يمتلكها العراق، والتي تتميز بدقة إصابتها لأهدافها، كما طلب عددا من صواريخ لونا الروسية الصنع، وفي تبرير كل ذلك قال إن الجيش المصري بحاجة إليها لمواجهة التفوق الإسرائيلي في المواجهات التي قد تحصل بين آونة وأخرى على جانبي القناة، وعدَ صدامُ حسين بدراسة الطلب بعناية وشعور عال بالدور القومي للعراق، فهم السادات من هذه الإشارة موافقة عراقية على الطلب، كما وعد َصدام حسين بدعم مصر في مجال إمدادات النفط فقد وعده بخمسة ملايين برميل هدية للشعب المصري من العراق وبمليون طن بسعر خاص، هنا قال السادات لصدام، بلهجته المعروفة (الأولاد في القلعة خذهم معاك)، وكان يقصد بعض الشباب العراقيين الذين ألقي القبض عليهم من قبل أجهزة الأمن المصرية، بتهمة محاولة اغتيال عدد من رموز المعارضة العراقية الناصرية مثل صبحي عبد الحميد وهادي خماس وعرفان عبد القادر وجدي ورشيد محسن، عندها قال النائب بلهجة قاطعة لم آتِ إلى هنا من أجل هذه القضية يا سيادة الرئيس بل من أجل قضيتنا المشتركة.
انتهى لقاء صدام حسين بالرئيس المصري أنور السادات بآمال عريضة من الطرفين، وخرج السادات إلى باب الطائرة مودعا صدام حسين بنفس الطريقة التي استقبله فيها عند وصوله إلى قاعدة الإسكندرية غرب.
بعد أكثر من سنة كانت الضربة الجوية الأولى والتي استهدفت صواريخ أرض – جو الإسرائيلية شرقي قناة السويس التي نفذها الطيارون العراقيون من سربين من طائرات هوكر هنتر قد شلّت الدفاعات الجوية الإسرائيلية لعدة أيام تمكنت خلالها القوات المصرية من تحقيق العبور التاريخي لقناة السويس.
طائرات الهوكر هنتر التي ذهبت إلى مصر مع أطقمها عبر الأجواء السعودية وعبرت البحر الأحمر قبل أكثر من سنة على بدء ساعة الصفر في حرب تشرين/أكتوبر 1973، وقدم العراقيون فيها دما غزيرا على طريق تحرير الأرض العربية، كما أن صواريخ لونا رافقت الصواريخ المصرية من النوع نفسه وصواريخ من أنواع أخرى، سقطت في ساعات القصف التمهيدي للقوات المصرية قبل مباشرتها خطة العبور التاريخية.
بدأت ساعة الصفر من دون أن يبلّغ المصريون والسوريون العراق بها، ولكن عندما وصلت ارتال الدبابات الإسرائيلية على بعد 32 كيلومترا من دمشق وكاد حافظ أسد أن ينقل العاصمة إلى حلب، واضطر لطلب النجدة من العراق عض العراقيون على موضع الجرح وارسلوا جيشهم الباسل فكانت ارتال الدبابات العراقية تزحف إلى ساحة الحرب على سرفها لتنتقل من حال الزحف المؤزر إلى حالة الاشتباك المقتدر فتوقف ارتال العدو وتحمي دمشق من سقوط مؤكد تحت نير الاحتلال ولتتحشد القوات العراقية انتظارا لساعة الصفر في الهجوم الأخير لتطهير الأرض العربية فيما كان حافظ اسد يجهز نفسه لاتفاق وقف إطلاق النار ويسدد ضربته الأخيرة لآمال الأمة مرة أخرى.

761