في مهبط الوحي

الجزء الثاني

كما قلت إن الوفود الإعلامية العربية ومن الدول الإسلامية أقامت في فندق الكندرة، ووجدنا أن عددا كبيرا من المفكرين والمثقفين والصحفيين والسياسيين العرب والمسلمين من مختلف دول العالم، وخاصة العرب يقيمون فيه، عرفت من بينهم الشاعر السوري عمر أبو ريشة، والسياسي السوري الدكتور معروف الدواليبي، الذي اشتهر بأنه من داعمي حركة الانفصال التي نفذها عسكريون سوريون يوم 28 أيلول 1961، وأطاحوا بتجربة أول وحدة عربية في التاريخ المعاصر والتي قامت بين مصر وسوريا في شباط 1958، ثم قربته المملكة العربية السعودية وشكلت منظمة أسمتها رابطة العالم الإسلامي في 18 أيار 1962 وجعلته واحدا من أبرز وجوهها، واتخذت الرابطة من مكة المكرمة مقرا لها، كنا نلتقي ببعض الضيوف المتواجدين في بهو الفندق وكنا نحرص على عرض الموقف الإيراني المعادي للأمة العربية، والتحالف الثلاثي القائم بين الولايات المتحدة وإيران الشاه وإسرائيل، لم تكن مهمتنا سهلة في معظم الأحيان، ولكننا لم نبتئس من تكرار المحاولة تلو الأخرى، للأسف الشديد كانت الصورة الحقيقية غائبة عن أذهان مثقفين وصحفيين لهم حضورهم في عالم الصحافة في بلدانهم.
كان السيد إبراهيم الزبيدي يواصل اللقاءات مع الحجاج العراقيين، ويرسل تلك اللقاءات عبر الاتصالات التلفونية إلى إذاعة بغداد والتي تتولى إذاعتها في برنامج تحت عنوان “رسالة الحج اليومية” كان البرنامج يحظى بشعبية، فكل من لديه حاج من أفراد أسرته أو قريب له أو صديق أو جار، كان يستمع إلى البرنامج إما لكي يطمئن على قريبه، أو ليبلغ عائلة من سمع صوته في البرنامج، على ما أذكر أن للبرنامج لازمة في بدايته وفي نهايته، من أغنية للفنانة اللبنانية إنصاف منير والتي مطلعها، يا ناقتي لا تفزعي الله معك وأنت معي.
كما أن الزبيدي كان يجري مقابلات لتلفزيون بغداد ويُرسل حصيلة عمله مع الطائرة العراقية العائدة إلى بغداد من جدة، أو يحتفظ بالأفلام الخام لتحميضها بعد العودة ومن ثم إعداد فلم تسجيلي عن المشاعر المقدسة كلها، وزيارة المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، وكان الفريق الفني متعاون مع السيد الزبيدي في كل ما يطلبه منه.
أعود إلى اليوم الذي تم فيه غسل الكعبة المشرفة من قبل الملك فيصل وتشرفت بالمشاركة فيه مع عدد يتراوح بين 15 وعشرين شخصا كحد أعلى، كان البث الإذاعي من غرفة البث التي تطل على المسجد الحرام متواصلا وحسب جدول تم تنظيمه على الحروف الهجائية، كان إبراهيم الزبيدي قد كتب الكلمة التي كان سيتحدث بها ضمن التغطية الإذاعية، وقد كتب كلمة معبرة جدا ربط فيها بين واقع الأمة الذي تعيش تحت ظروفه الضاغطة، وبين ما تعاقب عليها من تجارب ومحن ومآسٍ.
الزبيدي ومن أجل أن أكون منصفا، وبعيدا عن المشاعر السياسية والشخصية، كفاءة إذاعية جامعة لكل الفنون الإذاعية، انضم إلى الإذاعة في الخمسينيات من القرن الماضي، كان يعمل مذيعا ومقدم برامج وكاتب لها، وهو شاعر رقيق العبارة رشيق القلم، وكان أيضا يقدم برامج تلفزيونية ناجحة، ولعل أهم برامجه الإذاعية هو برنامج “عزيزي المستمع” الذي يستقطب أوسع جمهور، كان يطرح الفكرة السياسية بأسلوب سلسل يدخل في ذهن المستمع من دون استئذان، لم نعمل سوية في أي من مديريات الإذاعة والتلفزيون، فأنا كنت مديرا للأخبار وهو كان يعمل في إذاعة بغداد، وهما مديريتان مستقلتان ومرتبطتان بالمدير العام السيد محمد سعيد الصحاف.
كان قد اطلق هو وصديقه الإذاعي السيد عبد اللطيف السعدون في السنة الأخيرة من حكم اللواء عبد الكريم قاسم، إذاعة الوطن العربي الكبير، وتبث على موجة متوسطة من مرسلات المدائن وهي مرسلات روسية أقوى من مرسلات إذاعة بغداد في منطقة “أبو غريب”، وكانت برامجها تبدأ من الساعة العاشرة ليلا وحتى اختتام العمل في الإذاعة بعد منتصف الليل، واستطاعت تلك الإذاعة سحب معظم مستمعي إذاعة بغداد بل حتى بعض الإذاعات العربية الأخرى، بسبب ما كان يقدم فيها من برامج مشوقة، فضلا عن أن إذاعة الوطن العربي الكبير، كانت خارج السياقات العراقية المعروفة، خاصة فترات الحزن التي تبدأ من الأول من محرم وتنتهي في العاشر منه، توقفت تلك الإذاعة بعد ثورة 8 شباط 1963، وتحولت فيما بعد إلى إذاعة القوات المسلحة، وفيما بعد صارت إذاعة صوت الجماهير في 1 /5 /1969.
ترك إبراهيم الزبيدي الإذاعة عام 1974 لظروف شخصية لا أريد الخوض فيها، فهي من خصوصياته لوحده، ولكننا بقينا نحتفظ بصداقة طيبة مع اختلاف النظر أو ما هو أبعد من ذلك، ثم ترك العراق بسبب ظروف تركه العمل في الإذاعة، ولما عملت في المغرب مستشارا صحفيا في السفارة العراقية ومديرا للمركز الثقافي العراقي في الرباط، جاء إلى المملكة المغربية وقضى فيها عدة شهور لإنتاج مسلسل تلفزيون بالتعاون مع التلفزيون المغربي، وقدمت له التسهيلات كمواطن عراقي واعلامي بصرف النظر عن أي اعتبار آخر خاصة وأنه لم يخرج عن الخط العراقي، ومع بدء العدوان الإيراني على العراق عام 1980، كتب أغنية وطنية جاء فيها
واستفقنا ..
قائد يخرج من بغداد مرفوع الجبين
واثق الخطو قوي فيه عزم الفاتحين
ودمج معها مقطعا من أغنية عراقية شعبية خاصة بالأطفال، بعد أن ادخل عليها تعديلات جميلة وإن لم تخلُ من إسقاطات فسرها البعض بأنها تحمل نفسا طائفيا نعم هكذا فسرها المتصيدون للكلمات المحلقة في سماء العمل الفني، وتقول:
طلعت الشميسة
على وجه عيشة
عيشة عراقية
بنت القادسية
صاح الجيش بالميدان
أطلب منك يا رحمن
تنصر لي الغالي صدام

ومع ذلك عندما رجعت من الأسر في إيران بعد عشرين سنة، عرفت أن السيد إبراهيم الزبيدي، انضم لما يسمى بالمعارضة العراقية، لنظام البعث والرئيس صدام حسين رحمه الله، حقيقة لم أجد تفسيرا سياسيا لهذا التحول، ولكن من الصعوبة أن نحكم على الناس حكما ثابتا استنادا لمشاهدات حتى لو استمرت أربع أو خمس سنين.
واصلت بعثتنا تغطية شؤون الحجاج العراقيين في مكة المكرمة، ولما حان موعد انتقالنا إلى منى يوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية، ثم الانتقال إلى صعيد عرفة، كانت وزارة الإعلام السعودية قد هيأت كل مستلزمات الإقامة في كل هذه المحطات، كان أهم واجب إعلامي سيقوم به إبراهيم الزبيدي، هو نقل مشاهد صوتية تقرب صورة ما يجري في الديار المقدسة للمستمعين، خلال نفرة أكثر من مليون حاج من عرفة إلى منى حيث ينحر الحجيج أضحياتهم في أول أيام عيد الأضحى، وتبدأ النفرة بعد أداء صلاة الظهر والعصر قصرا وجمعا في مسجد نمرة يوم 13 /1 / 1973، إلى مزدلفة والصلاة فيها المغرب والعشاء قصرا وجمعا، وجمع الحصيات أو الجمرات التي سيرجمون بها ما يرمز إلى عمل الشيطان، لنتأمل المشهد بدقة، إذا تحرك لواء من أي جيش في العالم بل من أحدث الجيوش في العالم، من مثابة إلى أخرى وهو المدرب ويسير على وفق خطط صارمة، مع ذلك فقد تقع أخطاء وارتباك شديد وسلبيات كثيرة أثناء حركته، ويصل بعض منه إلى مثابات غير تلك المحددة لهم، على حين أن أكثر من مليون حاج ومن دول شتى ويتحدثون بلغات مختلفة وبأعمار الفارق بينها كبير جدا، فيهم العالم وفيهم الأمي، ومع ذلك فإنهم يتحركون مدفوعين بلهفة تجعل من أخطائهم في أضيق نطاق، ومضوا في رحلة الإيمان إلى الله من دون خطايا أو أخطاء كما ولدتهم أمهاتهم، ساهمنا في نقل وقائع نفرة الحجيج من عرفة إلى المزدلفة، وأدينا مناسكنا كاملة وتحللنا من إحرامنا صبيحة العاشر من ذي الحجة، يوم النحر.
صباح العاشر من ذي الحجة والموافق ليوم 14 كانون الثاني / يناير 1973، وبعد أن أنهينا رمي جمرة العقبة، حللنا من إحرامنا واغتسلنا، كنا نقيم تلك الليلة وطيلة بقائنا في منى، في مبنى يسع للوفود الإعلامية وهو مبنى عائد لوزارة الإعلام السعودية، هو بناية مريحة جدا، أبلغنا المرافق بالاستعداد للتوجه ضحى إلى القصر الملكي في منى، لتهنئة الملك فيصل بعيد الأضحى المبارك، وحضور فعالية خطابية وشعرية بالمناسبة في القصر، وصلنا القاعة الرئيسة ووجدناها مكتظة بالحضور، ولكن أمكنة الوفود محددة، تقدمت الوفود للسلام على الملك الذي وقف في صدر القاعة، وبعد أن انتهينا من السلام والتهنئة، جلسنا في مقاعدنا وألقيت كلمات وقصائد شعرية تُشيد بدور المملكة بإدارة موسم الحج بأدق التفاصيل، وترؤس الملك شخصيا للموسم، وأذكر من بين الشعراء الذين أنشدوا قصائدهم في ذلك اليوم الشاعر السوري المعروف عمر أبو ريشة، وشعراء آخرون وخطباء ألقوا كلماتهم بهذه المناسبة، وبعد ذلك كان علينا أن نمضي إلى مكة المكرمة لطواف الإفاضة ثم السعي بين الصفا والمروة والعودة إلى منى قبل المغيب، وهذا ما فعلناه.
بعد صلاة العشاء أقامت وزارة الإعلام حفلا تكريميا للبعثات الإعلامية، وكان رئيس البعثة اللبنانية مذيعا في إذاعة بلاده ربما كان اسمه رمضان، ويتكرر في كل عام وكان المسؤولون السعوديون يتعاملون معه بتقدير خاص، وكان مذيع الحفل يدعو رئيس كل بعثة حسب الحروف الهجائية لاسم بلده لإلقاء كلمة في الحفل، حينما دعاني المذيع لإلقاء كلمتي والتي لم تكن مكتوبة، تقدمت فقدمني المذيع وقلت، نحن اليوم في مؤتمر إسلامي كبير بل أكبر المؤتمرات الإسلامية على الإطلاق، ولا ينبغي أن ندعه يمر مرورا عابرا من دون أن نتذكر المسجد الأقصى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولى القبلتين وثالث الحرمين، تحت احتلال الصهاينة أعداء الله ورسوله ودينه، بل يجب أن نجعل من الحج مؤتمرا من أجل القدس والأقصى، ولكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك طالما يجلس معنا ممثل إيران التي تحولت بلاده إلى قاعدة جوية لتدريب الطيارين الإسرائيليين على طائرات الفانتوم، علينا أن نطّهر أنفسنا من هذه الأدران، حينما وصلت إلى هذا المقطع وجدت أن وزير الإعلام الشيخ إبراهيم العنقري قد تجهم وجهه، فقفز بدر كريم من مكانه وتقدم نحوي وحاول أخذ الميكروفون ولكنني أكملت فكرتي وغادرت المنصة إلى مكاني متذمرا ولكنني كنت مسيطرا على انفعالي، ولم أدعُ أبدا إلى إخراج موسم الحج من طابعه الإيماني إلى مهرجانات فوضوية.
كانت السفارة العراقية قد أقامت مخيما في منى، كما هو شأن سفارات أخرى، وكان ديوانا واسعا لاستقبال المهنئين في مخيم السفارة، كان السفير السيد أحمد ظفر الكيلاني، يرحب بمئات العراقيين الذين يَقدمون إلى البيت العراقي، وكان طاقم السفارة العراقية في جدة جنود مجندة لتقدم كل أشكال الدعم والعون للحجاج العراقيين.
اقمنا ليلتين في منى على الأقل استنادا إلى الآية الكريمة (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون)، فمن كان يريد الذهاب إلى مكة المكرمة والطواف في المسجد الحرام، كان عليه أن يفعل ذلك في ساعات النهار كي يعود إلى منى مبكرا هكذا هي المناسك، وبعد أن انتهينا من المكوث في منى طفنا في المسجد الحرام طواف الوداع، وعلى الرغم من القيود التي تفرضها حالة الإحرام على المحرم وعلى الرغم من أن البعض يجد فيها قيودا على حريته المعتادة، بمجرد قرب الرحيل من مكة المكرمة تنتاب المغادر نوبة شوق للأرض التي دعا إبراهيم الخليل ربه بان يجعل أفئدة من الناس تهوي إلى أهل هذا الوادي الذي أسكن فيه من ذريته، وأن يرزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون.
لاحظت ذلك العام أن لواء الشرطة فاضل حميد الحسون السامرائي، جاء مع عائلته بسيارته المرسيدس، ونتيجة لعدم استكمال كل المنشآت والأبنية والشوارع المحيطة بالمسجد الحرام، أنه كان يرصف سيارته بجانب أحد أبواب المسجد الحرام من دون أن يشعر أن هذا الأمر ممنوع، لم يكن هو الوحيد الذي قام بمثل ذلك، ولكن لأنني أعرفه جيدا، فقد أشرت هذه الحالة، لكن كل شيء تغير وتم شق الطرق الواسعة والسريعة المفضية إلى بيت الله الحرام للتسهيل على الحجيج مناسكهم.

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى