في مهبط الوحي

الجزء الرابع

بعد نفير الحجاج من صعيد عرفات إلى مزدلفة ثم صلاة المغرب والعشاء صلاة تأخير قصراً وجمعاً، تحركنا إلى مشعر منى، حيث يبدأ أول أيام العيد، وكما قلت فقد توافق عيد الأضحى لسنة 1392 هـ في 14 /1 / 1973م، وتبدأ فعاليات الحجاج في ذلك اليوم برمي الجمرات ثم النحر ثم الحلاقة ولا شرط بأي تسلسل منها فبالإمكان أن يأتي بأي واحدة منها، ثم التحلل من إحرامه والاغتسال.
توجهنا إلى القصر الملكي في منى، حيث كان الملك فيصل هو أمير الحج تلك السنة كما كان يفعل طيلة تسنمه موقع القيادة السعودية، وحتى وفاته رحمه الله، أخذنا مواقعنا في القاعة الكبيرة التي ازدحمت بالضيوف من مختلف الجنسيات الإسلامية حيث يشغلون مناصب وزراء أو أكثر من ذلك، وبعد أن سلمنا على الملك فيصل وفقا لجدول دخولنا القاعة وبعد أن نقدم له أنفسنا، كان يعبر عن سعادته لوجود هذا العدد الكبير من ضيوف الرحمن.
كان المشرفون على الاحتفالية يسألون رؤساء البعثات عن رغبتهم أو استعدادهم لإلقاء كلمات بالمناسبة أمام الملك، وهذا أمر يُحسب للسعودية إذ لم يحرجوا أحداً في الطلب منه أن يُلقي كلمة، عندما سألني أحد المشرفين عما إذا كنت أرغب في إلقاء كلمة بالمناسبة، اعتذرت وقلت نحن جئنا لتأدية مناسك الحج، ومن ثم تهنئة الملك بعيد الأضحى، لم يعقب أبدا ولم أشعر أنه انزعج من الأمر لاسيما وأن العراقيين معروفون بطبعهم الصعب.
وبدأت الاحتفالية بكلمة وزير الحج السعودي أو ربما كان هذا منصبه، الذي قدم التهنئة للملك والمسؤولين السعوديين وجميع الحاضرين في القاعة وأعرب عن الارتياح التام لنجاح الموسم كما كان مخططا له وأشاد بكل الجهاز الذي أشرف على الخطة ونفذتها مختلف أجهزة الدولة، وأكد خلو الموسم من الأمراض السارية والمعدية، وشكر البعثات الطبية والإعلامية العربية والإسلامية التي أسهمت كل في قطاعها بتقديم أفضل الخدمات لحجاج بيت الله الحرام، ثم تعاقب الخطباء بإلقاء كلماتهم التي مزجت بين الحديث عن فضل هذه الفريضة الإسلامية، وكونها تجمع مسلمي العالم في أيام معلومات ليتجردوا من كل الفوارق فهم جميعا في ملابس الإحرام وبلا مناصب ولا مراتب ولا ثروة تميز بين واحد وآخر، بعض الخطباء أشاد بجهود المملكة في تهيئة مستلزمات راحة الحجاج وانسيابية تنقلهم بين المشاعر، ثم جاء دور الشعراء لينشدوا قصائدهم والتي تناولت أغراضا متنوعة بين الحديث عن قدسية المناسبة، حتى جاء دور الشاعر السوري الذي عرفناه عندما كنا في الدراسة الثانوية في قصائده الوطنية مثل قصيدته..
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي ..مطرق خجلا من أمسك المنصرم
ويكاد الدمع يهمي عابثا ببقايا ….. كبرياء ….. الألم
فأسرف أبو ريشة في كيل المديح للملك فيصل والثناء عليه، في الواقع لم أجد في القصيدة ما يعيدني إلى عالم شعراء العربية التي طرزوا تاريخهم بعيون من الشعر العربي، حتى في مديح من لا يستحق المديح، ربما لم يطلب منه السعوديون أن يفعل ذلك، ولكن!!! (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحاتِ).
ربما كان يشعر بالامتنان لاستضافة السعودية لكثير من السوريين وتخصيص مرتبات ومساكن تناسب أوضاعهم السياسية والاجتماعية السابقة، وانتشلتهم من التشرد في أرض الله الواسعة، ولكن هل يستدعي ذلك العمل المدروس من قبل السلطات السعودية بعناية، لأسباب سياسية تتعلق بسياسة المحاور التي عاشها الوطن العربي ردحا من الزمن، كل هذا الثمن الذي لا تطالب به أصلا؟ ولا أعرف بعد أن ووجه أبو ريشة بانتقادات له ولقصيدته، هل بقي مطرقاً خجلا من تلك اللحظة أم لا؟
رابطة العالم الإسلامي التي أسستها المملكة العربية السعودية، لها مقر في مكة المكرمة ولها مصلحة مؤكدة من تأسيسها عربيا وإسلاميا ودوليا، وتستطيع من خلالها أن تفرض لها حضوراً في أكثر من ساحة من خلال قيادات الرابطة غير السعوديين، وهذا استثمار سياسي له مردود قد لا يرتقي إلى مستوى الطموح السعودي أو حجم الانفاق المالي عليها، ولكنه مع ذلك فإنه يغري بمزيد من الدعم، الرابطة لها جهاز إداري وأجهزة سياسية وإعلامية، ولها ميزانية تتعلق بوجوه الانفاق المختلفة لتحركها في مختلف بلدان العالم، ولكن كل شيء تغيّر بعد الإعصار الذي ضرب الشرق الأوسط وانتشر إلى شتى أرجاء العالم، أي ما يسمى بالثورة الإسلامية في إيران والتي جاءت بأسوأ نظام تكفيري إرهابي ظلامي عرفته البشرية نظام خميني.
فقد تبين أن هذه المنظمات تعبر عن الجهات التي تنفق عليها ولا تستطيع الخروج عن شرنقتها، ولم تتمكن من مدّ جسور حقيقية للعبور نحو الجماهير المسلمة في بلدان العالم، بل على العكس كانت تتخلى عن مواقع ومراكز في بعض البلدان لصالح قوى تُحسن توجيه خطابها الديني والسياسي والاجتماعي للبسطاء والفقراء في آسيا وأفريقيا وإلى حدٍ ما أمريكيا الجنوبية، بل إن إيران استطاعت في مراحل مختلفة من الاستيلاء على كثير من المراكز الإسلامية في أوربا والمساجد التي بنتها السعودية هناك، وحولت توجهاتها وارتباطاتها إلى مكتب الولي الفقيه، الذي لم يُنفق سنتاً واحدا على بنائها، فقط جاء وسطا عليها دفعة واحدة بعد أن اكتملت واكتسبت الإطار القانوني الرسمي في البلدان التي بُنيت فيها، ووقفت رابطة العالم الإسلامي بل وحتى ومنظمة التعاون الإسلامي عاجزتين عن التصدي لمخطط القضم الإيراني التدريجي لجهود مؤكدة بذلتها المملكة العربية السعودية قبيل وصول خميني إلى السلطة في إيران.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى