كيفية التحرك مع الجماهير

بعد الاطلاع على كتاب ( غوستاف لبون ) ، وهو أحد الكتب المهمة التي تناولت موضوع سايكولجية الجماهير ( علم نفس الجماهير )
وهو كتاب يوضح فيه كيفية التعامل مع أي جمهور ، وتطرق ( لبون ) في كتابه والذي كتب قبل مئة عام ، عن أمور كثيرة فيما يخص التحرك والتعامل مع الجمهور ، وان ما ورد فيه ، ومن وجهة نظرنا ، ما عاد ينطبق على الواقع الحالي ، لان الكثير من المفاهيم والأمور قد تغيرت تماما ، نتيجة التطورات العلمية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ورغم كل ذلك ، من الممكن الاستفادة من أفكاره ، وفِي كتابه اعتبر ، أن الجماهير عبارة عن مجموعة من البشر عاشو معا لفترة طويلة وخضعوا فيها لنفس العقائد والقوانين والعادات والتقاليد ، بحيث شكلت تلك العناصر ، روح وتفكير تلك الجماهير .. ومن هذا المنطلق ، إذن لايمكن التأثير على الشعوب في الغرب بنفس الطريقة التي يتم التأثير بها على الشعب العربي ، لوجود خلافات كبيرة جدا بين هذه الشعوب ، من حيث العادات والتقاليد والدين والتكوين الثقافي والعلمي وغيرها … فما ينطبق على تحريك الجماهير في الغرب لا ينطبق على تحريك الجماهير العربية… وحتى بين الشعب العربي الواحد هنالك فروقات بين قطر وآخر رغم العوامل المشتركة بين الأقطار العربية ، والذي يهمنا بالأمر ، هو كيفية التعامل والتحرك بين جماهير الشعب العراقي لخصوصيته التامة من بين شعوب العالم كافة. وعلينا ان نعرف تركيبته الكيمياوية بشكل جيد.


فالشعب العراقي مر في ظروف في غاية التعقيد والخطورة ، منذ بداية نشأته الاولى وحتى يومنا هذا ، وأي متتبع يجد أن جميع المراحل التأريخية التي مر بها العراق هي عبارة عن فترات حرب وبنفس الوقت بناء ، بناء حضارات مهمة ، مما أثر ذلك على سايكولوجية الشعب العراقي والى يومنا هذا .. فهو شعب مقاتل وشجاع وشعب ثقافة وعلم ، وشعب مسامح وكريم ، وبنفس الوقت قاس وصارم ومتقلب حسب مراحل تطوره التأريخي ، ومتقلب كمناخه ، ومزاجي وعاطفي ، فهو شعب يحمل كل التناقضات الضرورية لبناء الشخصية القوية …
وهو اليوم يعيش فترة سوداء من تأريخه الطويل ، فترة أحتلال الغزاة وقوى الظلام له ، وهم يقومون بتدمير حضارته وكل ما بناه العراقيون طيلة حياتهم الطويلة ..فقد تم تدمير كل شيء وسرقة كل شيء والأهم قاموا بتدمير النسيج الاجتماعي والعقائدي للجماهير العراقية وقاموا بتجويع الشعب .. فإنتفض الشعب العراقي من شماله الى جنوبه ضد الاحتلال وعملائه .. وكان لتحريك الجماهير أسباب عديدة أهمها الجانب الاقتصادي (والمرتبط بحياة الجماهير وحاجاته الاساسية )الذي لعب دورا مهما في تحفيز الجماهير وبلورة الوعي لديها فضلا عن دور القوى الوطنية من الأحزاب الوطنية في تعبئة الجماهير بأتجاه الثورة وتحرير العراق .. على عكس ما جاء بكتاب ( لبون) من أن الجماهير لا تفهم لغة العقل ، أي غياب العقلانية لديها والذي يحركها هي سرعة الانفعال ، والتأثير ، والتعصب ، واللاوعي ، فهل كان الشعب العراقي كذلك اثناء انتفاضته الحالية ..؟
إن ثورة الشعب العراقي تختلف تماما عما جاء بأفكار (لوبون ) ..

فهي ثورة كرد فعل عقلاني وواعي وناظج ومنظم وله قيادة فعالة وواعية وتدرك تماما عن ما يجري من حولها .. نعم رغم تأثير الجانب المذهبي والديني الذي فرضته أحزاب الاسلام السياسي في بداياتها ، لكن سرعان ما بدأ هذا التأثير يضمحل ويتلاشى بعد ان ادرك الثوار زيف هذه الادعاءات ، وكشف علماء الدين المتاجرين بالدين ..
لذا فإن ثوار تشرين لم يتأثروا بالخطابة والتحريض والتحميس والتحشيد فقط ، وإنما حكمتها قوانين المنطق العقلاني وتكامل الوعي الجمعي وبالأخص عند الشباب ، والذي يمثلون حقيقة الامة وحصيلتها .. وهذا يخالف تماما ما جاء بكتاب سيكولوجية الجماهير لكاتبه ( لبون ) والصادر قبل مئة عام …
إن ما ينطبق على الجماهير في الغرب لا ينطبق على الجماهير العربية والعراقية بشكل خاص.وهنا يأتي دور الأحزاب الثورية والشخصيات الفعالة والقيادية وبالأخص حزب البعث العربي الاشتراكي ، أن يضعوا نصب أعينهم ، كيفية التحرك بين الجماهير ، وتعبئتها باتجاه تحقيق اهدافها .. وهذا يتطلب ، أعتبار الجماهير هي ميدان العمل المركزي لهم ، وأعتبار أي حراك جماهيري مرتبط بشكل عضوي بعوامل عديدة منها العقيدة الدينية السائدة ومدى فاعليتها في تحريك سلوك الجماهير وكيفية التعامل مع هذا العامل الحساس والمهم وتوظيفه لمصلحة أهداف الثورة.
والتأكيد على طبيعة الثقافة المجتمعية ، والمنظومة القيمية السائدة ومدى تأثيرها على الواقع والسلوك ، والتأكيد على ثقافة المقاومة وسلمية المقاومة وحيوية الحراك الجماهيري والتأكيد على ربط وأهمية التحرك الجماهيري بالحاجات الاساسية للإنسان ، كالأمن الشخصي ودخل الفرد والمستلزمات الاساسية للحياة .. وتحفيز الجانب العاطفي لاهميته في تحريك الأشخاص .. والاهم من هذا كله ، هو نوعية القيادات المحركة للجماهير ومستواها وحجم مشاركتها الفاعلة فيي التحرك والتفاعل مع قضايا المجتمع وهمومه وهنا يجب ان يبرز دور حزب البعث ، كون لديه تنظيمات لها عمق وانتشار داخل المجتمع ، والتحرك الذي تقوده احزاب ، وبالأخص حزب البعث الذي يمتلك ثقل وقواعد بشرية واسعة الانتشار والتأثير بين أفراد الشعب ، يكون لديه القدرة على الاستمرار وتحقيق النتائج اكثر من التحركات التي تقودها أفراد وجماعات لا تمتلك الرصيد الجماهيري .. والمطلوب من القيادات أن تنزل بين الجماهير وتتفاعل معها وتساهم بمعاناتها ، وان تكون هذه القيادات تهتم بالشباب بشكل خاص ، وأن تكون هذه القيادات شابة هي الاخرى ، حتى تتمكن من فهم الشباب وفهم تطلعاتهم والتفاعل معهم .. هذا اذا أردنا ان نقود الجماهير وفهم سايكولوجيتهم.. فالقيادات الشابة أصبحت ضرورة ملحة في هذه المرحلة التأريخية ، وهي القادرة على استيعاب التطور العلمي والتقني الذي يحدث في العالم ، اما القيادات التي شاخت وتجاوزتها المرحلة والتي باتت تجتر بالماضي وغير قادرة على استيعاب حركة المجتمع والتطور الحاصل في العالم .. وهي عاجزة عن القيام بدورها المطلوب في هذه المرحلة التاريخية الخطيرة ..
فعليها أن تترك المجال للشباب لتبوء المواقع القيادية ، حتى نظمن المستقبل…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى