بدأ في بغداد يوم الخميس 26 أيلول مؤتمر أطلق عليه منظموه اسم مؤتمر “العراق يتعافى”، ويبدو أن من فعل ذلك كان غير ذي اختصاص بموضوع المؤتمر الذي يركز على الجوانب الاقتصادية، فالشعار خيالي إلى حدود بعيدة ويصلح أن يكون لمهرجان خطابي أو شعري، في بلد معروف عنه أنه بلد الشعر العربي الأول، ويبدو أن الجهة المنظمة له تتحدث عن صورة بلد آخر يمكن أن يكون أي بلد آخر إلا العراق فإنه خارج الصورة المعروضة.
ولو أن المؤتمر قد عقد في عقد التسعينيات لقلنا إنه مؤتمر ينطبق على واقع العراق حينذاك انطباقا تاما من حيث الفعاليات المختلفة، وعلى الرغم من مآسي العدوان الثلاثيني عليه وإخضاعه لأسوأ حصار دولي وشحة الموارد المالية ومراقبة مستوردات العراق حتى أُخضعت أقلام الرصاص للحظر تحت لافتة منع المواد ثنائية الاستعمالات، والهدف الحصري لهذه الخطوة اللئيمة وضع العراقيل أمام النهوض العلمي والتعليمي للعراق، على الرغم من كل هذه الضغوط الدولية تحوَل العراق إلى أنشط ساحة بناء وتعمير، ولم تمنعها الاعتداءات الأمريكية على أراضيه وتدمير كل ما كان يتم تشييده، وذلك بهدف تأييس العراقيين من مواصلة جهدهم في إعادة البناء والتعمير، فأقيمت السدود والجسور والطرق الجديدة ونهضت الزراعة والصناعة مجددا، وأعيدت الطاقة الكهربائية وتم إصلاح محطات تصفية المياه بجهود المهندسين والعمال العراقيين، لكن مؤتمر العراق يتعافى يعقد في غير مكانه وغير زمانه الصحيحين.
فكيف اكتشف منظمو المؤتمر أن العراق يتعافى؟ وهل لديهم الدليل على ذلك وهل يمتلكون الإحصائيات والأرقام المؤكدة لهذه التسمية؟
من المعروف أن العراق يمتلك ثروات معدنية عديدة وخاصة النفط والغاز الطبيعي والفوسفات والكبريت، بالإضافة إلى وفرة المياه والأراضي الصالحة للزراعة، والأهم من كل ذلك الخبرات العالية المبدعة والأيدي العاملة المؤهلة للاضطلاع بمهمة تنمية واسعة النطاق، فماذا أنجزت حكومات الاحتلال المتعاقبة منذ 2003 وحتى الآن؟
إن تقديم جردة سريعة بما تحقق للعراق في ظل الاحتلال الأمريكي ومن ثم تسليمه لإيران وعملائها، ستؤكد لنا أن التدمير الشامل هو الحقيقة الوحيدة التي يمكن للمراقب أن يلمسها والذي طال كل الركائز التي كان العراق قد أقامها صناعيا وزراعيا وعمرانيا وعلميا، يضاف إلى هذا المشهد المأساوي ما يعيشه العراق من حكم مليشيات طائفية صادرت سلطة الدولة وتحولت إلى دولة تقتل على الهوية وتعتقل على الظنة وغيبت مئات الآلاف وأجبرت الملايين على الهجرة من مدنهم وحتى من العراق كله.
ومن حقنا أن نلخص المشهد بالعديد من النقاط لعل أهمها:-
1 – عملية سياسية فاسدة منذ تشكيلها من قبل بول بريمر، استندت على محاصصة طائفية عرقية عرجاء، وحتى هذه المحاصصة لم تنصف أطرافا لها الثقل الأكبر من بين سكان العراق، أي السنّة العرب الذين سُلبوا من كل حقوقهم وجُلب أنفار منبوذون داخل بيئتهم وتم اعتبارهم ممثلين للسنة، فكانوا أدوات طيّعة بيد الجهة المتسلطة على مقادير الحكم في العراق وفق الإرادة الأمريكية والتسلط الإيراني، في حين أن الأكراد بقوا في منأى عن تسلط الطبقة الحاكمة بل تمكنوا من وضعها أمام الاعتراف بالأمر الواقع بأنها إن استطاعت أن تضع السنّة العرب في دائرة التهميش المذل، فإنها لن تمتلك القدرة والأدوات على أن تفعل الشيء نفسه مع الأكراد.
2 – الفساد السياسي المستند على فساد مالي لا وجود لمثله في أي بلد آخر في العالم، فهل تستطيع أطراف العملية السياسية أن تُعلن عن كيفية تشكيل الحكومة، أو اختيار الأشخاص للمناصب الوزارية أو الدرجات الخاصة وما هو ثمن كل منصب نزولا إلى الوظائف الصغيرة في الدولة العراقية؟ وهذا يعني أن المسؤول الذي يدفع مبلغا ماليا كبيرا للحصول على منصبه أو وظيفته، فإنه يرى فيه استثمارا ناجحا عليه أن يحقق منه ربحا أكبر مما دفع من رشىً ثمنا لوظيفته أو منصبه، وهكذا تفشت ظاهرة العمولات من الصفقات الحكومية والرشى من المواطن عن كل معاملة يريد انجازها، واللافت أن الفساد لم يعد فسادا شخصيا وإنما هو ظاهرة بنيوية عامة يشترك فيها المتهم والطرف الذي يتهمه، حتى باتت هذه الظاهرة لا تثير دهشة أحد أو استهجانه.
3 – لا أحد يستطيع اخبارنا من أين يتعافى العراق؟ هل من التردي الخطير في مستوى التعليم بكل مراحله حتى تفشت الأمية على نطاق واسع وحتى تم سحب الاعتراف بالشهادات العراقية بكل مراحل الدراسة وخاصة الجامعية؟ أم من التراجع في مستوى الخدمات الطبية على نحو لم يعشه العراق حتى أيام الغزو المغولي وتفشي الأوبئة والأمراض المستعصية؟ أم في تردي الخدمات العامة ووصولها إلى الحضيض؟ فلا ماء صالح للشرب ولا طاقة كهربائية في وقت صارت الكهرباء حاجة أساسية وليست ترفا خاصا بالطبقة الحاكمة في المنطقة الخضراء.
4 – من أين يتعافى العراق وما زال يحتل الموقع الأول في قائمة الفساد الدولية، وهنا علينا أن نقف عند نقطة في غاية الأهمية، وهي أن حجم الفساد في العراق في شهر واحد يفوق حجم الفساد لعدة دول لسنة واحدة أو أكثر، فإذا كان الفساد في دول أفريقية أو آسيوية بملايين الدولارات فإن الضائعات المالية منذ 2003 فاقت الترليون دولار؟.
5 – من أين يتعافى العراق وهو يتردى في كل يوم ويتقلب بين مستنقعات الجهل التي يعشعش فيها معممون لا هم لهم إلا ابقاء الشعب العراقي في دائرة التخلف والخرافات والتردي؟.
6 – من أين يتعافى العراق وسلطة الغاب هي السائدة، بعد تعطيل القانون في البلد الذي وضع أو تشريع في الأرض؟ ومن أين يتعافى العراق والدولة غائبة عن تأدية دورها في حماية الوطن والمواطن وممتلكاته؟ ومن أين يتعافى العراق وقد استبيحت سيادته وأصبح ساحة مفتوحة تلعب فيها إيران ومليشياتها بمصير العراق وأبناء شعبه فتعتقل وتقتل خارج سلطة القانون؟.
7 – من أين يتعافى العراق ويقود الدولة فيه الجهلة الذين يحاربون حمَلة الشهادات العليا لأن وجود هذه الفئة العالية التعليم يهدد وجود المعممين الجهلة ويلغي الحاجة لوجودهم؟ من أين يتعافى العراق ونسبة البطالة فيه وصلت فوق الخطوط الحمر؟ ومن أين يتعافى العراق والتمييز في التعامل مع شرائح المجتمع هو الطابع الذي يميز العملية السياسية الكسيحة؟ فهل يعقل أن مجموعة من الخونة واللصوص ومخربي الممتلكات العامة ومهربي المخدرات، تستحوذ على الشطر الأعظم من رواتب منتسبي الدولة ويُحرم مستحقوها الحقيقيون من أبسط حق لهم في المواطنة؟ ومن أين يتعافى العراق وأزمة السكن تضرب بقوة ضمير الأحرار من أبناء البلد وإذا ما احتج أحدهم بتظاهرات سلمية يواجه بأسوأ أشكال القمع؟ كل هذا يحصل لأن الولايات المتحدة التي جاءت بالنظام ما زالت تشمله بمظلتها ورعايتها وتمنع أي مساءلة أو إدانة له.
لقد كان حريّا بمنظمي هذا المؤتمر المسخ أن يختاروا له اسم “العراق يتراجع” أو العراق يتهاوى”، ولكن الصَلف الذي يحمله من يتصدى للمسؤولية في عراق الاحتلالين وعدم الحياء هما وحدهما اللذان جعلا المشرفين على المؤتمر يختارون هذا الاسم الاستفزازي القبيح.
818