قبل سنوات قليلة انتشر مقطع فديو تظهر فيه لقطات متعدّدة من برامج حوارية سابقة لقنوات فضائية عربية مختلفة، ما تلبث أن تخرج عن سياقاتها الإعلامية الصحيحة لتصل حد الاستفزاز والغليان بين المشاركين وتنته في الأخير بالصراخ والسبابّ وأحياناً بمعركة بالأيادي والكراسي، وقلب الطاولة، حتى وصلت ذروتها وأغربها حين أشهَرَ أحد الضيوف مسدسه الشخصي بوجه الضيف الأخر …!
تذكرت وقائع ذلك الفلم وأنا أُشاهد مقطع فيديو انتشر أخيراً على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر فيه جمهرة من الأشخاص وهم في انتظار وصول أحد الساسة ومعه مجموعة من المرافقين والحمايات بسيارات فارهة ليستقبلوه بالترحيب الحار، والقبلات والأحضان و(فايروس كورونا يتأملهم في الخفاء)، وكأنه أتى منتصراً من معركة حامية الوطيس. دافعْ الاستقبال الجماهيري هو أن هذه السياسي كان قد ظهر قبل يوم ضيفاً على قناة فضائية مع ضيف آخر أجنبي وجرى بينهما حوار ساخن لتنتهي الحلقة برمي كيل من الشتائم مستخدماً عبارات وألفاظ نابية ضد ذلك الضيف، لا تليق بقناة يشاهدها الملايين، ويتابعها زملاءه السياسيين. لكن ربما اعتبرها نصراً إعلامياً له.
إن هذه الحالات المزرية والذميمة التي لطالما تحدث في مثل هكذا برامج سياسية حوارية في أرجاء الوطن العربي هي ليست وليدة اليوم ولا سببها الاحتقان السياسي في المنطقة ولا الوضع المتأزم فيها، ولكن باعثها الرئيس هو الجهل في طريقة الحوار الراقي والمتحضّر مع الآخرين الذي غالباً ما ينقلب إلى جدال عقيم، وأيضاً خلفيتهم الثقافية السطحية ولغتهم الركيكة، حتى وإن كان يحمل لقب دكتور أو أستاذ أو شيخ أو سيّد…! إضافة إلى ضعف مقدم البرنامج في إدارة الحلقة وضبط سلوك ضيوفه.
إن الساحة السياسية مفتوحة منذ عام 2003، دخلها من هبَّ ودبَّ، وتأسست محطات وقنوات فضائية بعدد اللاعبين السياسيين في تلك الساحة، وأظهرت لنا هذه البرامج جليّاً مدى ركاكة بعض هؤلاء الساسة في المناورة والحوارات الفكرية فيما بينهم حول الموضوعٍ المطروح للمناقشة. وعلى أيّةِ حال فذلك ليس بمثلمة اجتماعية أو ثقافية، لأن أغلب هؤلاء هم من حديثي العهد في العمل السياسي، ويفتقرون لفن المناقشة والحوار في الأمور السياسة وخباياها. لكن العيب يكمن على السياسي الذي أفضى سنوات طويلة في المعترك السياسي منذ عام 2003 ولحد الآن، ولا زال سلوكه في الكلام وطريقة حواره مع ضيوفه في مثل هذه البرامج مخزية ومخجلة أحياناً على الرغم من ظهوره الدائم من على شاشة التلفاز وفي برامج عديدة ومختلفة وكأنه نجم متألق، مصرًّا على نهج ذات التصرّف المعيب، يحسبها لنفسه مكسباً سياسياً ودعاية انتخابية مسبقة. ويندرج هذا الوصف أيضاً للضيوف من غير الوسط السياسي سواء كانوا محللين أو باحثين أو متابعين لخريطة الموقف.
فعندما يحضر هذا الضيف إلى مثل هكذا برامج فأنه يكسي جسدهُ ببدلة أنيقة، وربطة برّاقة في عنقه، ومنديل زاهي في جيب السترة، وأزرار ذهبية لأكمام القميص (Cufflinks)، واضعاً في اعتباراته أنه سيقابل مقدّمة برنامج جميلة وأنيقة، وضيف آخر ندًّ له، وسيظهر في التلفاز أمام أهله وعشيرته ومعارفة إضافة إلى الملايين من مشاهدي هذه القناة، لكن ما أن تمر دقائق قليلة على بداية البرنامج حتى تبدأ ملامح التشنّج فيما بينهم وبعدها ينتقل الحوار إلى مناوشات وتشنيع ونشر غسيل الآخر، ومن ثمَّ تتعالى الأصوات وتتشابك المناقشات ويتقاطع الحوار دون احترام لوقت كلٍّ منهم، والكل يسترسل بالكلام في آنٍّ واحد حتى تصل أحياناً إلى المهاترات والتراشق بالكلام، سواء داخل الأستديو أو عبر الأقمار الاصطناعية، وينتهي اللقاء دون أن يقتبس المشاهد أو أَفادَ من كلامهم شيء. بعدها يودع المقدم مشاهديه ويقدم اعتذاره عن هذا الصخب وتحفّظه عمّا صدرَ من أفواه ضيوفه، وينتهي كل شيء. وبعدها بساعات تجد مقاطع هزيلة من ذلك البرنامج قد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وتحتها التعليقات السمجة والكلمات الجارحة والانتقادات اللاذعة لهؤلاء السياسيين. لذلك فقد نأى بعض الضيوف وترفّعوا عن المشاركة في مقابلات حوارية مزدوجة أو ثلاثية، تجنبًا لوقعهم بمثل هكذا مواقف تسيء لهم، وتضعهم في موقف لا يُحسد عليه.
لذلك آن الأوان لهؤلاء السّاسة أن يتهذّبوا ويثقفوا أنفسهم في أصول الحوار المتمدّن والنقاش الهادئ ومهارة التحدث مع الآخرين سيّما أنهم يَعتبرون أنفسهم طبقة مؤثرة لها ثقلها في المجتمع، وشخصيات مرئية أمام الجماهير في الداخل ومرآة للوطن في الخارج، ويمثلون شرائح الشعب وطموحاته…!
إن أهم آدب الكلام والحوار التي يجب أن يتقنها المتحدث في لقاءاته هو الإنصات برويّة إلى الطرف الآخر واحترامه وعدم مقاطعته أو التشويش عليه أو الاستهزاء برأيه، والابتعاد عن التعصب في رأيٍ ما حول نقطة خلافية قد تظهر، وألا يحاول الابتعاد عن المحاور الأساسية للموضوع، ويجب عليه تطعيم الحوار بألفاظ لطيفة ومنمّقة، واستخدام الأسلوب السليم في الإقناع من خلال الحجج والبراهين الواقعية، ونبذ طريقة التجريح والقذف المتبادل.
كل هذه العوامل تجعل من هذه اللقاءات -وأغلبها تُبث مباشرةً على الهواء-لقاءات ممتعة ومفيدة، تصل فكرتها وأهدافها للمتلقي بدقة وضوح، وتعطي صورة إيجابية عن نضج المتحدث وتعكس للناس حالْ وواقع من يدير عجلة الحكم في البلاد.
ويلعب الدور المهم في تحقيق تلك العوامل، مقدم البرنامج نفسه-الذي أحياناً يكون هو السبب في إشعال تلك المعركة-فعليه أن يكون حازماً ومهذّباً في نفس الوقت في وقف أي تجاوز يطرأ من أياً من ضيوفه، ومنصفاً مع الجميع في الأسئلة وتجزئة الوقت واحترام المشاهد، ويأتي ذلك من خلال استخدامه المعايير الإعلامية السليمة وتطبيقها بحرفية في إدارة الجلسة وطريقة الحوار، وتوضيحها لهم قبل بدأ الحلقة على أقل تقدير…!
وصدق الشاعر الأصمعي حين قال:
إذا كان الطباعُ طباعَ سوءٍ | فلا أدبٌ يفيد ولا أديبُ |