ولكن السؤال الأكثر أهمية وإلحاحا هو لماذا نجحت إيران في توظيف مليشيات وأحزاب خارج إقليمها من قوميات غير فارسية لتخوض نيابة عنها كل معاركها بما فيها معارك إيران ضد الدول التي يحمل منتسبو تلك المليشيات جنسيتها وخاصة من العرب؟ هل هي الإرادة السياسية أو روح الإقدام والمجازفة التي تمتلكها إيران ويفتقدها الآخرون لاسيما الدول العربية العاجزة عن توظيف ملفات يمكن أن تلحق بإيران أذى يردعها ويوقفها عند حدها مثل ملف العرب في الأحواز أو ملفات البلوش والتركمان السنة والأكراد وغيرهم من المهمشين والمضطهدين، بل لماذا يبدو العرب عاجزين حتى عن رد التحية لكثير من الأطراف المعارضة للحكم القائم في طهران والتي تبادرهم بها وهي مهيأة تماما لمباشرة معارضة مسلحة ضد النظام القائم في إيران؟ ولماذا يحاول العرب الظهور بموقف الدول المتمدنة أكثر مما يحتمله واقعها، في تعاملها مع إيران التي تتصرف تصرف العصابات وتطالب بحقوق الدول؟ وهل تستطيع إقناع العالم بنظافة يدها مما يُنسب إليها من أعمال إرهابية تنفذها القاعدة أو داعش أو غيرهما؟ وهل كان لوجود قوى مسلحة تعمل خارج إيران ولصالحها، قدرةً كافيةً لردع الولايات المتحدة عن الإقدام على أية خطوة حتى ولو من باب الرد الخجول على استفزاز إيراني كبير من قبيل الرد على اسقاط الطائرة الأمريكية المسيّرة قرب مضيق هرمز أو تهديد خطوط الملاحة البحرية الدولية؟ أو تهديد إمدادات الطاقة في دول المنطقة؟ لا سيما وأننا ازدحمت أسماعنا بأعلى زعيق من جانب ترمب وفريق إداراته تهديدا لإيران، حتى بدا وكأن الصواريخ ستنهال على مقر الولي الفقيه ثم بدأت تلك التهديدات تذوب مع الوقت كما يذوب الملح في سيل ماء جارف.
هناك أكثر من عامل ودافع مكّن إيران من حيث فشل غيرها من العرب أو أي قوم آخرين، وهنا يجب عرض الموضوع بموضوعية جريئة وليست موضوعية تجامل على حساب الحق.
لقد تمكّن التشيّع منذ نشأته الأولى في فارس على يد مؤسسيه الأوائل على الربط بينه وبين الولاء لفارس، مما جعل صدق الولاء (لإيران لاحقا) دليلَ الإيمان بالتشيّع، وبهذا فقد كفّر رجال الدين الشيعة الولاء للوطن والانتماء للقومية وتركوا العربي ضحية صراع داخلي مع نفسه نتيجة تساؤله هل يصح الانتماء لوطن أو فكر قومي مع صدق الولاء للتشيّع الذي يلزم بالوقوف مع إيران في كل معاركها مهما بلغت التضحيات، ومن أجل ألا تبدو نزعة التشيّع وكأنها نزعة موالية للشعوبية التي نشأت أول ما نشأت في بلاد فارس، ومن أجل عدم استفزاز العرب في انتمائهم لوطنهم أو ولائهم لقوميتهم، نشط كتّابُ تاريخ التشيّع في سرد روايات محرّفة عن تاريخ وجغرافية نشوئه، فركزوا على أنه نشأ أول مرة بُعيد واقعة السقيفة التي تم فيها اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم توالت الروايات والمسرحيات اللاحقة، حتى وصلت إلى كسر ضلع فاطمة الزهراء من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهكذا حتى وصلت ذروتها في فاجعة كربلاء واستشهاد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وتحميل السنة حتى يوم القيامة دم الحسين، كما عبر عن ذلك أكثر من مسؤول سياسي وديني في معارك إخراج داعش من مدن العراق التي سلمها نوري المالكي من دون قتال، فكان الشعار المرفوع عاليا (إن الحرب هي بين أحفاد الحسين وأحفاد يزيد)، فنسف التكفيريون الحقيقيون نصا قرآنيا يقول (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
لقد تم تسيّس التشيّع لصالح إيران، فانساق الناس وراءه بعاطفة الولاء لآل البيت، وما دروا أن أصله هو الولاء المطلق لبلاد فارس.
هنا تكمن قنبلة إيران النووية الحقيقية وهنا تتركز عناصر قوتها، ولكن العرب وسائر المسلمين عنا غافلون.
هنا علينا أن نأخذ فسحة من الزمان والمكان، فنقول وبيقين، لا يوجد نظام حكم في العالم يعيش حالة تصادم بين ما يرفعه من شعارات سياسية ودينية، وبين تطبيقاته على الأرض مثل نظام (الجمهورية الإسلامية)، فإيران وبصرف النظر عن كل ما تقوله وتطرحه من شعارات، تعي جيدا أن الغرب الذي تعاديه في العلن وتعشقه في سرها، يبادله الحب وينظر إليها كمنطقة استثمارية نادرة تتكلم في تعاملاتها الاقتصادية والتجارية بمنطق براغماتي ناجح على خلاف الدول العربية الخليجية التي تتعامل بمنطق في غاية التخلف مع زبائنها، وهذه الخاصية الإيرانية تجعل من لعاب الشركات الكبرى يسيل للاستثمار فيها على الرغم من أنها ليست أكثر ثراءً من الدول المجاورة لها، هذا بالإضافة إلى نظرة الغرب إلى إيران باعتبارها عصا التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل من جهة وعامل تقويض للكيانات العربية باسم الإسلام.
ربما يثير هذا الطرح التباسا لدى القارئ لأول وهلة، ولكن يمكن توضيح الصورة بالقول إن الولايات المتحدة ومهما التقت مصالحها واستراتيجيتها مع إسرائيل الآن وفي المستقبل المنظور، تبقى هناك نقاط معتمة في صورة أهداف الطرفين على المدى البعيد، فالحركة الصهيونية العالمية المهيمنة على بيوت المال في العالم على استعداد لاستبدال حلفائها كلما اقتضت مصالحها الاستراتيجية كما حصل في الماضي، وإذا ما عرفنا أن رأس المال اليهودي هو المسيطر على البنوك وشركات النقل والتأمين والشركات الصناعية الكبرى وحركة الأموال في العالم، فإن أي افتراق بين الولايات المتحدة حاصل لا محالة إذا ما شعرت بيوت المال اليهودية أن الولايات المتحدة بدأت تفكر أمريكياً بالدرجة الأولى، وهناك أصوات بدأت ترتفع فعلا داخل الولايات المتحدة بضرورة الالتفات إلى المصالح الأمريكية أولا وقبل كل شيء.
وعادة ما يكون الافتراقُ بداية التصادم اللاحق حتى وإن بدأ بزاوية ميل صغيرة جدا، ثم يأخذ بالاتساع فحينذاك سيكون لكل منهما مجاله الحيوي ومصالحه واستراتيجيته التي تختلف عن مصالح الطرف الآخر، ولما كان اليهود ممسكين برأس المال والشركات الكبرى والبنوك، فإن ذلك سيؤدي إلى تجاذبات بينهما لأن كلا منهما سيبحث عن مصالحه الخاصة حتى لو كانت على حساب الطرف الآخر.
انطلاقا من مبدأ التوازن الإقليمي والدولي، فإن إسرائيل لن تستطيع الإبقاء على احتكار القوة النووية منفردة في هذه المنطقة الحساسة من العالم، كما حصل في كسر الاحتكار النووي الأمريكي عندما تسربت أسرار برنامج (مانهاتن) وهي التسمية السرية للبرنامج النووي الأمريكي، عبر مصدرين، أولهما روسي يدعى غيورغي كوفال والذي كان يحمل اسما سريا هو دلمار، والثاني عن طريق ثيودور هول وهو عالم أمريكي الأصل تخرج من جامعة هارفارد، والذي برر إيصال المعلومات السرية إلى الاتحاد السوفيتي بأن حيازة الأخير للسلاح النووي كان يجب أن يحدث حفاظا على التوازن الاستراتيجي بين القوتين الأعظم، وهذا ما تحقق فعلا عندما أجرى السوفيت تجربتهم الذرية الأولى في 29 آب 1949، من دون أن تتنبأ أجهزة الاستخبارات الأمريكية بذلك، وكان أمرا كفيلا بإحداث التوازن في القوى، وإيجاد نوع من الردع المتبادل، هنا يبرز سؤال في غاية الأهمية عن حقيقة البرنامج النووي الإيراني وعما إذا كان العالم يجهل حقا مراحل تطوره الحقيقية؟ أم أن إيران عصية على أي اختراق أمني؟ بحيث يمكن أن يستيقظ العالم على دوي خبر أقوى من دوي انفجار أول قنبلة إيرانية؟
على العموم إن منطق التوازن هو السائد في العلاقات الدولية والإقليمية، والأمر تكرر بين باكستان والهند، أما كوريا الشمالية فربما ظلت الاستثناء الوحيد حتى الآن من هذه المعادلة ففي الوقت الذي فاجأت العالم بتفجير قنبلتها الأولى، ظلت كوريا الجنوبية واليابان حريصتين على التطور الاقتصادي السلمي حتى صارتا نموذجا استثنائيا في تطويع التكنولوجيا وتوظيفها لخدمة الاقتصاد الوطني من دون طموحات نووية على الرغم من قدرتهما التقنية على امتلاك هذا السلاح بأسرع وقت فيما لو صدر القرار السياسي.
إذن علينا أن نفترض أن إيران هي المرشحة لتلعب دور عصا التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل فهي لا تهدد وجود إسرائيل جديا على الرغم من وجود أسباب عدة لتصادم المشروعين الصهيوني والفارسي في المنطقة وخاصة في الأراضي العراقية، ثم إن الأخيرة تمتلك الرادع النووي الذي لا يسمح لمبتدئ في هذا النادي بتلقي الدرس القاسي الذي تعرضت له اليابان في الحرب العالمية الثانية، فمن المعروف أن وجود دولتين متكافئتين في قوة الردع يمنع أيا منهما من خوض غمار مجازفة غير مدروسة النتائج، حتى في حال وجود مصالح متصادمة، فالردع المتكافئ يؤدي إلى خلق تفاهمات مرحلية حتى في الملفات الاستراتيجية بانتظار تغير الظروف الإقليمية والدولية لعقد صفقات جديدة.
781