مقاهي السياسة وسياسة المقاهي

عندما كنت طالبا في المدرسة المتوسطة من بداية السبعينات ولغاية سنة 1978 كنت اصطحب والدي رحمه الله من مقهى حسن عجمي الى البيت بشكل دائم وكنت احضر مبكرا في كثير من الاحيان واشرب الشاي واستمع الى ما يتداوله أصدقاء الوالد من حكايات تختلط بين الادب والسياسة وبلغة تشوبها في كثير من الأحيان الالغاز والكلمات التي تعطي عدة معاني في وقت واحد وكان ما يتم تداوله في المقاهي البغدادية ينتشر بسرعة البرق ويؤثر في المتغيرات السياسية في العراق باعتباره راي عام وكان بعض السياسيين يجالسون الادباء والفنانين من اجل استنباط راي او الوصول الى حل لمشكلة , وقد كان الوالد يجلس في المقهى عادة في وقت العصر الى المغرب وكان عصر يوم الجمعة مميزا جدا , وأتذكر من أصدقاء الوالد من الادباء من رواد المقهى الشاعر محمد مهدي الجواهري وقد جالسته اكثر من ثلاث مرات وكان أيضا الاديب والمؤرخ سليم طه التكريتي الذي كان في اوج نشاطه الادبي والأستاذ صالح التكريتي الذي ترك العراق بسبب العمل في الكويت ولم يتمكن من العودة اليه بسبب أفكاره اليسارية ولم اجالسه في المقهى بل كان يزورنا في البيت وكان من رواد مقهى حسن عجمي أيضا الأستاذ الاديب كمال بهاء الدين والأديب الدكتور ناصر الحاني الذي تم اغتياله في نهاية 1968 وهو صديق مقرب من والدي وكان رجل الاعمال المعروف ابن بنية عادة ما يجلس مع الادباء وعند وجوده في المقهى ” يصيح وير” لكافة الادباء وكلمة وير تركية تعني ان يدفع عن الاخرين ثمن طعام او شراب وكانت سيارته تقف مع السائق في موقف السيارات في جانب الكرخ قرب دائرة التقاعد ويصل للمقهى مشيا على الاقدام عبر جسر الشهداء كنوع من الرياضة و في احد أيام العطل الرسمية قام ابن بنية بدعوة الوالد للغداء فذهبت معهما من المقهى مشيا على الاقدام الى شارع البنوك حيث اكلنا قوزي على تمن في مطعم ابن سمينة وكان الاكل لذيذ وطعم اللحم مازال تحت لساني لغاية الان وقد رأيت في مقهى حسن عجمي مرة واحدة السياسي الشاعر صالح مهدي عماش جالسا مع الادباء وكان هناك عدد من المحامين والصحفيين ايضا وقد كان الادباء من مختلف القوميات والديانات حتى كان بينهم صحفي يهودي مشاكس لا أتذكر اسمه لكنه كان قمة في الاخلاق يحترمه الجميع وكان الحديث عموما في الادب واخر المؤلفات الادبية وكنت اسمع اجل قصائد الشعر تقرا بلغة عربية سليمة وطبعا كل المحاور تدور وتختلط بالسياسة في داخل وخارج العراق وكانت المقهى تعج بالأدباء الذين كنت اعرف وجوههم ولا اعرف أسمائهم والسياسيين كان لهم حضور في مقهى حسن عجمي بشكل واسع لكن التعامل فيما بينهم يتم بسرية تامة وكانت المقهى ملتقى لأغلب الأحزاب السياسية وفيه كانت تعقد الصفقات والتحالفات وتبدأ الخصومات لكن بكل احترام دون ان يؤثر ذلك على رواد المقهى وكان الادباء يحتلون مدخل المقهى من جهة اليمين المقابلة للسماورات الروسية المرصوفة على الحائط خلف بيت النار ( الوجاغ ) وقد سمعت من أصدقاء والدي ان اول من وضع تلك السماورات هو المالك الثاني للمقهى الحاخام حسقيل بن هارون وكانت هدايا من أصدقائه من التجار في السوق ومن بعض العوائل اليهودية لكي يستعملها في المقهى وعندما أصبحت تلك الهدايا كثيرة وفائضة عن الحاجة بقيت في المقهى واستعملت كنوع من الديكور للمكان , ومن رواد المقهى أيضا قراء المقام العراقي مثل الأستاذ محمد القبانجي ويوسف عمر وغيرهم حيث المناقشات الفنية والأدبية حول المقام العراقي واتذكر ان والدي احتال على احد قراء المقام وكان اسمه عبد القادر ويعمل نجار احتال عليه بان لدينا بعض اعمال النجارة في البيت فجاء عبد القادر للبيت وخلال عمله طلب منه والدي ان يقرا احد المقامات الصعبة والمميزة فقرا المقام بدون موسيقى لكن بصوت جهوري جميل وسجل له والدي عدة مقامات على شريط الكاسيت بقيت في البيت كرمز من رموز زمن المحبة والخير , لم يطلق لقب مغني على من يؤدي المقام بل قارئ المقام اسوة بقارئ القران لما للبغادة من احترام وتقديس للموسيقى وللمقام العراقي , لقد كانت واجهة مقهى حسن عجمي زجاجية نظيفة دائما وكان شارع الرشيد نظيفا أيضا ومزدحم بشكل كبير حيث المقهى مجاور لإعدادية الرسالة وشربت الحاج زبالة ومقابل جامع الحيدرخانة , بعد تأميم النفط سنة 1972 بدأ الحراك السياسي في العراق يزداد واستمر لغاية 1979 و في منتصف 1976 أصبحت مقهى حسن عجمي تعج بوكلاء الامن العام تدريجيا حيث يستمعون لكل شيء ولديهم قوائم لأشخاص ينتظرونهم في المقهى ليستمعوا لآرائهم السياسية وقد تم اعتقال بعض رواد المقهى من داخل المقهى وهذا ما اثار من حفيظة الادباء والفنانين وجعلهم في جو مرعب لم يتعودون عليه سابقا, وفي احد الأيام قرر الادباء الهروب بشكل جماعي من المقهى والتحول الى مقهى الزهاوي التي تبعد عن مقهى حسن عجمي 500 متر تقريبا في الطريق باتجاه ساحة الميدان وترك مقهى حسن عجمي للرواد العاديين يصول ويجول بينهم وكلاء الامن دون ان يعثرون على ما ينتفعون منه بإلقاء القبض عليه . وكانت مقهى الزهاوي واسعة ونظيفة تقع في زاوية الشارع وتطل على شارع الرشيد وعلى شارع فرعي يصل الى منطقة القشلة مما جعلها مفتوحة اكثر ويدخلها الضوء والهواء من الواجهة الكبيرة ومقهى الزهاوي بالأساس كانت ملتقى للأدباء وعندما التحق ادباء مقهى حسن عجمي بهم اصبح عدد الادباء كبيرا واصبح معظم الرواد من الادباء والفنانين وقراء المقام وتحولت الى مركز ادبي ينافس وكالات الانباء والندوات الثقافية في ذلك الوقت واخذ الصحفيين يتوافدون على مقهى الزهاوي بشكل كبير لالتقاط اخر الاخبار الأدبية مباشرة من الادباء واجراء المقابلات الصحفية والتقاط الصور, و كانت الآداب والفنون من ارقى الممارسات واصحابها يعتبرون من عليه القوم لا ينافسهم في مكانتهم الاجتماعية أي شخص في المجتمع العراقي وكانت الحياة بسيطة في ذلك الوقت وبدون تعقيدات وكان التلفون الارضي هو وسيلة الاتصال الوحيد بين الناس وعندما كانت تصل أي رسالة او كارت معايدة بالبريد للبيت كان الجميع ينشغلون بها ويتكلمون عن ما تحتويه لأيام عديدة .

اليوم وبعد سبعة عشر عاما من الغزو والاحتلال الأمريكي الإيراني البريطاني للعراق فقد تغير الحال وبدأت حرب طاحنة بين الأدب والثقافة والفنون من جهة والسياسة من جهة أخرى فقد ساد الجهل في المجتمع واتبعت حكومة المنطقة الخضراء سياسة تجهيل الناس وغيرت المناهج الدراسية لتعطي الطالب مزيدا من الأفكار الطائفية والعدوانية والعنصرية وتم اهمال كافة دور العلم واصبح الطلبة يجلسون على الأرض في معظم محافظات العراق وأصبحت اللغة المستعملة في العراق من قبل السياسيين لغة مكسرة عامية بعيدة عن اللغة العربية واذا ما حاول احد السياسيين التكلم بالعربية الفصحى فانه لا يتمكن من نطق جملة واحدة صحيحة وذلك لان معظم رجال السياسة اليوم يفتقرون الى التعليم والمتعلم منهم قد اكمل الدراسة المتوسطة وحتى كلمة العراق لا يعرفون كيف يلفظونها باللغة العربية ويلفظونها باللكنة الفارسية بفتح العين ولم تخلوا زاوية صغيرة او كبيرة من مدن العراق بصور لرجال الدين الإيرانيين وللمرشد الإيراني ورئيس الجمهورية الإيرانية وتم اجبار الناس على تقبل ذلك بقوة السلاح وأصبحت ظاهرة تزوير الشهادات الدراسية والعلمية شائعة وتحظى بقبول من قبل كافة السياسيين حتى وصلت الوقاحة بأحد أعضاء برلمان المنطقة الخضراء ان يطلب في جلسة علنية لذلك البرلمان ان يتم تشريع قانون يحمي من قام بتزوير شهادته العلمية والمضحك المبكي ان معظم السياسيين العراقيين يحملون لقب دكتور فمن اين حصلوا على تلك الشهادات ؟ لقد تفتق ذهن احد السياسيين الفاسدين عن فكرة شيطانية بان قام بالتعاون مع بعض السياسيين الفاسدين المقيمين خارج العراق والحاملين لجوازات سفر اجنبية ( والذين هربوا من العراق بعد ان سرقوا ملايين من الدولة ولم يتمكنون من العودة ) بإنشاء مراكز تزوير شهادات في بلغاريا والدنمارك وغيرها من الدول الأوروبية تقوم بتزوير شهادات الماجستير والدكتوراه بشكل علني وعمل مسرحية تخريج للشخص الذي يشتري الشهادة حيث يتم استئجار كل شيء مثل قاعة في فندق فاخر وملابس جامعية و ممثلين كمبارس لتمثيل دور الطلبة المتخرجين مع حفل تسليم شهادة الدكتوراه المزيفة حيث يتم تصوير ذلك المشهد التمثيلي كجزء تكلفة تزوير الشهادة في ظل عدم اعتراض حكومات تلك الدول تحت مبدأ مادام حامل الشهادة لا يقيم في بلدي فاني لا اعترض على الجريمة في الوقت ان الجريمة ” عملية التزوير ” تمت فوق أراضيها وضمن قوانينها ومن قبل احد مواطنيها .
لقد تحول العراق المحتل بشكل مشترك بين أمريكا وإيران ” وبريطانيا التي تحرك الجميع ” الى بلد متخلف ثقافيا وادبيا وقد تم إهانة الدين بشكل سافر واستعماله كوعاء للمافيات التي تسرق كل شيء في العراق ابتداء من البترول وانتهاء بالأعضاء البشرية وأصبحت الميليشيات تحكم الشارع والأحزاب الدينية تستولي على معظم موارد الدولة وتدير تجارة الخمور والمخدرات والدعارة والمتاجرة بالبشر بشكل علني ومن يعترض فمصيره طلقة من مسدس كاتم ويتم تصوير عملية الاغتيال بالفيديو وينشره على مواقع التواصل الاجتماعي لإرهاب الناس كما حصل قبل أسبوعين عند اغتيال الناشط المدني الصحفي الباحث هشام الهاشمي وتصوير عملية الاغتيال من قبل فريق القتل وبثها على كافة مواقع التواصل الاجتماعي بعد ساعة واحدة من الاغتيال.
بغداد مازالت تقاوم همجية المحتلين ومازال شارع المتنبي يقاوم ومعه مقاهي الشابندر والزهاوي لكن معظم مقاهي العراق اليوم تعج بالعاطلين عن العمل وبمافيات المخدرات والدعارة والتهريب وصفقات توزيع النفوذ وسرقة ثروات العراق بين الأحزاب الطائفية الحاكمة وأصبحت السياسة العراقية تأخذ الكثير من مفرداتها من تلك المقاهي وأصبحت سياسة المقاهي هي التي تحكم العراق بعد ان كانت مقاهي الادب والسياسة من يحكم العراق.

مقالات ذات صلة

بسام شكري

باحث وكاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى