لم يكد يصل رئيس المجلس العسكري السوداني عبد الفتاح برهان إلى الخرطوم، عائدا من جولة في دول المنطقة، حتى انطلق رصاص “قوات الدعم السريع” ليُسقِط العشرات، بين قتيل وجريح، وليحرق خيم المعتصمين، ثم أطلقت القوى الأمنية حملة اعتقالات واسعة لقصم ظهر الانتفاضة.
وهكذا في تصعيد دموي مكشوف، أسقط المجلس قناع “احتضانه” المزيف للانتفاضة، وكشف عن حقيقة كونه امتداداً للنظام السابق، وجزءاً من قوى الثورة ـ المضادة، فلم يتورع عن اللجوء فورا الى استفزاز القوى الشعبية، بهدف جرّها إلى مربع العنف. وبذلك دشّن النظام العسكري الحالي مرحلة جديدة في مسيرة الانتفاضة، ليفرض على قواها إما الرضوخ والاستسلام، وإما العنف ردّاً على العنف، وإما لا هذا ولا ذاك، حيث دعت “قوى الحرية والتغيير” الى العصيان المدني الشامل.
فهل تستطيع قوى الانتفاضة مواصلتها والحفاظ على سلميتها، على الرغم من لجوء المجلس العسكري إلى العنف الدموي؟
يشكل الجواب على هذا السؤال تحدّياً كبيرا لقوى الانتفاضة، لكن التحدي الأكبر يبقى مرتبطاً بالهدف الأبعد، الذي تبلور خلال الشهور الماضية، ألا وهو “بناء سودان جديد” يقوم على الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية. هذا يستدعي بالضرورة الانتقال فوراً وبمن دون أي تأخير، إلى تبني خطة عمل معاكسة، تتمحور حول ثلاثة محاور مترابطة:
أولاً، مواصلة الإنتفاضة، والحفاظ على شعبيتها وشموليتها وسلميتها، مهما كانت التضحيات، التي يبدو أنها ستكون جسيمة.
ثانياً: وضع اليد اولاً بأول على هياكل واجهزة السلطة والإدارة، بما فيها التي تدير القوى المسلحة.
وثالثاً، الاستعداد الدائم للتفاوض، على الرغم من نفاق النظام، لكن ضمن شروط قوى الانتفاضة.
كيف يمكن ذلك سلمياً على الرغم من عنف الحكم العسكري؟
فيما يلي محاولة للإجابة، نطرحها للدراسة والنقاش والإغناء والبلورة، بدافع التضامن والتأييد والإعجاب والحرص على النصر، من بدون أي ادعاء او استعلاء او تلقين دروس، إنه اقتراح برنامج عمل مرحلي إلى أحرار السودان.
المنطلق: لا يمكن بناء سودان جديد من دون الاستيلاء سلميا على السلطة، وتفكيك بُناها وإعادة بنائها، بشكل متزامن، على أسس الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.
مبدأ معروف: كل طرف من أطراف أية مواجهة، من أي نوع وبأي شكل كانت، يحرص على حشد واستخدام نقاط قوته وتعزيز قواه ويعمل على إستهداف نقاط ضعف الطرف الآخر.
وعليه، لا بد لقوى الإنتفاضة من اعتمادها على قوة الحشود الشعبية، وشمولية حركتها لكل أرجاء الوطن، بشكل متزامن، بحيث تعمل دائما على تشتيت قوى النظام المسلحة وأجهزته الأمنية، وإشغالها كلها في كل المواقع ومن دون هوادة. كذلك يمكنها الاعتماد على أعدادها الكبيرة لتنظيم قدرتها وتوزيع قواها، بحيث يتم التناوب لتأمين مواصلة أعمالها الاحتجاجية. ثم حذار حذار من نجاح النظام العسكري في حشد قواه وتحريكها، بشكل تستفرد فيه وتعزل قوى الانتفاضة ومناطقها لضربها واحدة بعد الأخرى، كما فعل النظام السوري.
تعزيز قوى الانتفاضة: بعد أن كشف النظام الحالي ارتباطه بأنظمة الثورة ـ المضادة، ولجأ إلى العنف الدموي، لا بد من توسيع تحالف قوى الحرية والتغيير، وتشكيل جبهة موحدة مع كل من يرفض حكم العسكر، ويلتزم بسلمية الإنتفاضة وبمبادىء الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، وبعدم الارتباط بأي أجندات خارجية، تحت شعار “لقد آن لكل المواطنين، أفرادا ومجموعات، أن يختاروا فورا، إما الاستبداد وإما الحرية.”
العلاقات والمصالح الخارجية: لأنه لا يمكن عزل الداخل عن الخارج، لا بد من طمأنة القوى الخارجية، من دون أي تنازلات تمسّ أهداف الانتفاضة، وبالتالي، لا بد للمعنيين بالإعلام من قوى الحرية والتغيير، من تكرار إعلان وتأكيد موقفها، باحترام والتزام المعاهدات والعقود والاتفاقيات مع الدول الخارجية، والهيئات والمؤسسات الأممية.
اللجان الشعبية في كل مكان: ضمن إطار العصيان المدني، فوراً ومن دون أي تأخير، لا بد من إطلاق أوسع حملة وطنية لتشكيل لجان شعبية، بدءاً من الأحياء والنجوع والإدارات، وصولاً إلى المستويات الوطنية العامة (في كل حي أو إدارة أو مؤسسة، الناس يعرفون بعضهم البعض جيداً ويميزون بين الغث والسمين). وهذا يستدعي تطوير وتوسيع ما سبق واستطاعت قوى الانتفاضة تأسيسه وتشكيله، وذلك، تأكيداً على مواصلة الإنتفاضة وتوسيع المشاركة الشعبية، بل وعلى تشكيل أجهزة الرقابة الشعبية.
السلطة والإدارة الموازية: من الضروري أن تتولى قيادات قوى الحرية والتغيير، من دون أي تأخير، تشكيل سلطة او حكومة ظل مؤقتة، ليس فقط لقيادة الإنتفاضة، وإنما أيضا استعدادا لملء أي فراغ سلطوي، ولاستلام وإقامة السلطة المدنية الانتقالية.
ومن أولى مهام حكومة الظل، تشكيل إدارة من المختصّين، تتولى تنظيم وإدارة والإشراف على الشؤون المالية والجباية والموازنات والتمويل الخ. وضمن نفس الاطار، لا بد من الإسراع باحصاء وهيكلة وتنظيم وفرز الكفاءات البشرية، اولاً بأول، خصوصا، في صفوف الناشطين، وإعدادهم من أجل وضع اليد على أجهزة السلطة والإدارة بكل مفاصلها ومستوياتها، خطوة خطوة من القاعدة إلى القمة، ومن الأطراف إلى المركز، بما في ذلك أجهزة وزارة الداخلية، وذلك بهدف حرمان قيادات النظام من قواعده وأدواته.
وبنفس الاتجاه، من الضروري ليس فقط دعوة القوى المسلحة بكل تشكيلاتها ومحتوياتها الى الإنحياز الى خيار الشعب، وإنما أيضا، إطلاق أوسع حملة شاملة، تقوم فيها كل عائلة بتشجيع وبالضغط النفسي والاجتماعي على أفراد وضباط القوى المسلحة، من أجل الانضمام إلى الإنتفاضة وحماية قواها، شرط انضوائها وانضباطها فورا في التشكيلات الأمنية الشعبية الموازية.
الرقابة الشعبية: على الرغم من كثرة وتعدد وتعقيد مهام قوى الانتفاضة، لا بد لها من فرز وتشكيل جهاز تدريبي (الكفاءة المناسبة في الموقع المناسب)، يتولى إعداد وتدريب اللجان الشعبية على ممارسة الرقابة، والسهر على حسن سير وعمل مؤسسات الدولة وإداراتها، بما فيها القوى المسلحة.
ضمن نفس الاطار، لا بد أيضا من فرز وتشكيل جهاز، تكون مهمته المبادرة إلى التغلغل والسيطرة على الوسائل والأدوات الإعلامية الرسمية، وخصوصاً القنوات الفضائية.
وهكذا، باختصار شديد، يتحدد الهدف خلال مرحلة المواجهة مع النظام العسكري الحالي، وهو تشكيل سلطة وإدارة وأجهزة موازية من صفوف قوى الانتفاضة، تعمل، أولاً بأولٍ، على التفكيك وإعادة البناء بالشعب وللشعب، وتحت رقابة الشعب، وبأكبر قدر ممكن من الديموقراطية المباشرة.