من حكايات الأسر

من الأصدقاء الأعزاء الذين رافقوني في مراحل مختلفة في سنوات الأسر العجاف، رفيقان تربطني بهما علاقة رفاقية قديمة، وهما الرفيقان اللواء الركن دخيل الهلالي رحمه الله والذي توفاه الله بعد أسابيع من عودتنا من الأسر في 22 /1 /2002، وكان قد عَمِلَ قبل الأسر رئيسا للمؤسسة العامة للنقل البري، إذ كنا معا في منظمة حزبية واحدة، هي قيادة فرقة اليرموك ضمن تنظيمات شعبة العدل بفرع أبي جعفر المنصور، ثم تطوع لألوية المهمات الخاصة في الفرع، وهو اللواء 11 مهمات خاصة، ثم أصبح لاحقا آمراً للواء المذكور الذي يتشكل من ست سرايا، وكنت حينها مسؤولا للسرية الأولى، افترقنا يوم 24 /3 /1982 وهو اليوم الذي أُسرنا فيه، ثم التقينا مرة أخرى في معسكر قمصر كاشان “خرابة ناصر شاه”، في الأول من أيلول 1991.
والثاني هو الرفيق الشهيد علي المشهداني، الذي اغتالته المليشيات قبل عدة سنوات في منزله، وقد تعرفت عليه من الأيام الأولى لثورة 17 تموز 1968، كان في جبهة المشداخ أيضا آمراً للواء التاسع مهمات خاصة، وإضافة إلى هذين الباسلين من رجال العراق، فقد نسجت حقبة الأسر الطويلة لي علاقات رفاقية متميزة مع عدد من أبطالها المميزين، كنا نقتل الوقت بما يضيف إلينا حصيلة معرفية تُوسعُ من آفاقنا وبقية الأسرى، ومن مختلف المستويات التعليمية والانحدارات الاجتماعية ومن كل مدن العراق الأبي.
أذكر مرةً وحيث كنا نتمشى في فترة الاستراحة القصيرة التي “يتصدق” فيها الإيرانيون علينا ويطلقون عليها اسم “تنفس” تارة و”آزادي” تارة أخرى، مع اللواء الركن الهلالي، فقادنا الحديث إلى أيام دراسته في كلية ساند هيرست في بريطانيا، ولكنه عندما وصل إلى رتبة عالية وبعد مدة من تخرجه من كلية الأركان العراقية، تم ترشيحه لمتابعة دراسته العسكرية العليا في كلية القيادة الهندية، وهي من بين الاكاديميات العسكرية المشهود لها بالكفاءة العالية، ويُقبل فيها ضباط قادة وآمرون من الهند ومن مختلف دول العالم التي تحتفظ معها بعلاقات متشعبة.
تحدث بأسلوبه الشيق عن مختلف الجوانب العسكرية في الدورة، وخاصة نظرة الإكبار التي يتعامل فيها القادة العسكريون الهنود مع حرب تشرين أول 1973، وقال إن قائدا هنديا ذكر في إحدى محاضراته، أن عبور قناة السويس يعيد إلى الذاكرة عبور النورمندي في الحرب العالمية الثانية، وربما يتفوق عليه بسبب طبيعة التحصينات الإسرائيلية القوية في خط بارليف والذي سرعان ما انهار مع الساعات الأولى لبدء المعركة، كما أبدى القائد الهندي تقديره العالي لدور الطيارين العراقيين الذين شنوا غاراتهم الأولى على تحصينات العدو، ومواقع دفاعاته الجوية ومقرات السيطرة والقيادة بطائرات هوكر هنتر، قال اللواء الركن الهلالي إنه انتفع كثيرا من تلك الدورة، وكان يثبت ملاحظاته عن كل شاردة وواردة صغيرة أو كبيرة، وعندما تم تأسيس جامعة البكر للدراسات العسكرية، فقد كانت ملاحظاته حاضرة في وضع الأسس الراسخة لأكاديمية عسكرية على أعلى المستويات العالمية، وهذا ما تحقق فعلاً.
وكان اللواء الركن دخيل الهلالي، ينقلني إلى الاستراحات والجولات الميدانية في مختلف القطاعات السياحية والانتاجية الزراعية والصناعية، يقول مرة أُخذنا في جولة سياحية إلى شاطئ البحر، كان آمر الدورة هو الذي يقود أفرادها في تلك الفعالية وكان جنرالاً من الديانة السيخية، نزلنا إلى البحر لنزيل بعضاً من حرارة الجو الخانقة، كان الجنرال الهندي قد سبقنا، عندما نزلت بعده بقليل، كان يمارس هواية الغطس، فجأة ظهر على سطح الماء مع شعره الطويل ولحيته التي لم تعرف الحلاقة من يوم نبتت على وجهه، يقول نادى علي “ديك how are you؟”، يقول الهلالي لقد أفزعني منظره الذي رأيته فيه لأول مرة، إذ أنه كان يخفي كل ذلك وراء ملابسه العسكرية وطريقة تصفيف الشعر، ربما ظننت أنه كائن بحري مما سمعنا عنه من أمهاتنا وجداتنا أيام الطفولة.
وفي استراحة أخرى نقلنا الهلالي إلى تجربة زراعية هندية رائدة ويقول، في أحدى زياراتنا الميدانية التي تتخلل الدورة، أخذنا المسؤولون عنها إلى إحدى القرى النموذجية التي تسعى الحكومة الهندية لتوسيع نطاقها حيثما توفرت الظروف المناخية والبيئية الصالحة، يقول تبلغ مساحة كل مزرعة في القرية النموذجية خمسة دوانم “12500 متر مربع”، وفرت الدولة قروضا ميّسرة لحصول كل أسرة على خمس أبقار لإنتاج الحليب ومشتقات الألبان مع بناء حظيرة لها مع كل مستلزماتها الفنية، مع زراعة خمسة دوانم بالبرسيم بواقع دونم واحد لكل بقرة من البرسيم، والباقي تزرع فيه محاصيل مختلفة تجعل الأسرة تكتفي ذاتيا، إضافة إلى حقل صغير للدواجن.
لكن ما لفت انتباهنا، يقول الهلالي هو أن حظيرة الأبقار ترتبط بمجرى لفضلاتها ينتهي عند حفرتين تم تصميم كل واحدة منهما لتسع الفضلات لمدة ستة أشهر، وهما مبطنتان بمواد عازلة لا تسمح بتسرب المياه منهما أو إليهما، وترتبطان بحظيرة الأبقار بأنابيب للصرف، ولكل حفرة غطاء بلاستيكي متحرك يرتفع كلما احتقنت الحفرة بالغاز المتولد من فضلات الأبقار، وبعد ستة أشهر، يتم نقل الفضلات نحو الحفرة الثانية، فيما يتم استغلال الغاز المتولد من الحفرة الأولى في استخدامات شتى في منزل الأسرة الفلاحية من طبخ وإنارة وغير ذلك، وقد تم إخبار منتسبي الدورة بأن العلماء الهنود يعكفون على انتاج مولدات كهربائية صغيرة تشتغل بغاز الميثان الناتج من حظائر الأبقار، كما يوجد لدى كل أسرة “ماتور” صغير يُستخدم لسحب الفضلات بعد أن تُقتل كل الكائنات الحية في الحفرة، وتتحول إلى أسمدة عضوية لتسميد الدوانم الخمسة، وما يفيض منها عن الحاجة يتم تسويقه من قبل جمعيات تعاونية لبيعها في مزارع أخرى، وبذلك تتعدد مصادر دخل الأسرة من بيع ما ينتج فيها من بيض ولحوم دجاج ومشتقات الألبان، والعلف الحيواني والأسمدة العضوية.
وقال اللواء الركن دخيل الهلالي إنه وبعد عودته من الهند كتب عدة تقارير عن الدورة العسكرية والمشاهدات التي اطلع عليها وخاصة المزارع النموذجية وامكانية الانتفاع منها في العراق.
كم نحن بحاجة إلى مزارع من هذا النوع، لا سيما وأننا نأكل لحوم الأبقار وليس كما يحصل في الهند، إضافة إلى المزايا الأخرى التي نقلتها من حديث الصديق العزيز اللواء الركن دخيل الهلالي رحمه الله.

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى