تلك النار التي انطلقت من أسطح بنايات بغداد العالية إلى صدور شبابها العارية، لن تتغلغل في الأجساد الطرية قبل أن تتغلغل إلى وجدانهم كذلك، ولن تخترق قلوب الشباب المؤمن بحقه في العيش بحرية وكرامة، قبل أن تخترق عقولهم وتستفز وعيهم.
إيران وأذرع مشروعها في ورطة حقيقية، فلأول مرة هي أمام مشهد ليس من اليسير أن تختلط فيه الأوراق، ولا أن تختلق له الأعذار والمبررات، إذ إن الجيل الذي خرج رافضاً الظلم والإفساد الذي تجاوز كل الحدود والخطوط الحمراء هذه المرة، وجوبه بالاستخدام المفرط للنار والقوة، لا يمكن إلصاق تهمة البعثية به، فغالبهم لم يدرك حقبة البعث أصلاً، ولا تعني له تلك الحقبة شيئاً، وكذلك لا يمكن إلصاق تهمة الداعشية والوهابية به، فالغالب منهم هم شباب ولد وترعرع في بيوت وبيئات شيعية خالصة، وكان بعضهم حتى فترة قريبة يميل في هواه إلى المشروع الإيراني، ويشعر متوهماً بأن هذا المشروع سيوفر له غطاء الرعاية والحماية والكرامة والعيش الرغيد، قبل أن ينتبه من غفلته، فيرى أحلامه تتهاوى وآماله تتبخر، ووطنه يضيع، ويصبح ضيعة وحديقة خلفية إيرانية، وسوقاً للمخدرات والسلع رديئة الجودة أو منتهية الصلاحية، ودون أن يلمس شيئاً من الشعارات التي وعدته بتغيير واقعه وظروف معيشته، إلا اللهم ما يسمعه من وعود جديدة وكثيرة، سرعان ما تتبخر في كل مرة كهواء في شبك.
لعل من أهم ما بدأت تفرزه الأحداث الأخيرة في وجدان الشباب، وترسخه في وعيهم، أن مشكلة العراقيين الحقيقية اليوم ليست مع الدولة وعوامل الدولة، وأنها لن تنتهي باستقالة عدة وزراء أو استبدالهم، ولا بحل كامل الوزارة، أو حتى الدعوة لانتخابات برلمانية جديدة، كما كانوا يظنون سابقاً، بل مشكلتهم مع عوامل اللا دولة وفوضى الفكر والسلاح وما تفرضه من تعدد لمراكز القوة والقرار، التي تضغط بدورها على قوة الدولة وتصادر قرارها، وتعطل أي محاولة لقيام تنمية حقيقية تعيد الأمل إلى قلوب الأجيال الجديدة، وتناغي أحلامهم بمستقبل يعيد الأمل إلى قلوب الأجيال الجديدة، وتناغي أحلامهم بمستقبل أفضل من الواقع الذي عاشوه خلال السنوات الماضية.
واقع عاشوه وهم يسمعون عن الإيرادات والأرصدة الكبيرة التي كانت تدخل إلى الخزينة العراقية، ويمنون أنفسهم بشيء من تحسين الأوضاع المعيشية والمرافق الخدمية، ولكنها سرعان ما تنتهي إلى جيوب الفاسدين، يضاف إليها أموال التهريب والتبييض والمخدرات التي كان العراق خالياً منها في أسوأ الظروف التي مر بها من قبل. إنهم أمام النموذج الإيراني الذي يعمل على تآكل منظومة الدولة من داخلها، وإفراغها من محتواها مع الإبقاء على هياكلها الشكلية، وبناء وتقوية منظومة موازية للدولة.
منظومة من القوى الشعبوية الفاعلة التابعة له، خارج إطار الدولة، هي التي تهيمن على قرارات الدولة وتتحكم بمقدراتها، وتحتكر الكثير من خيراتها، وتتمتع بامتيازاتها، في مقابل أن ترهن البلد لصالح مشروع ولاية الفقيه وأحلامه التوسعية، تماماً كما فعلت في إيران ولبنان من قبل، حيث تعاني شعوب البلدين من الفساد والخراب والمخدرات والجوع والفقر، في مقابل طبقة من الأثرياء الجشعين الجدد، المرتبطين بمشروع ولاية الفقيه، وكما تفعل في العراق واليمن اليوم!
الشباب العراقي بات يرى اليوم بوضوح أن السلاح الذي يواجه صدورهم العارية هو ليس سلاح الدولة، والأيدي التي تكمم الأصوات وتمنع اعتراض المعترضين وتحجر على نقل الحدث بشتى السبل، ليست يد الدولة مطلقاً، إنما هي القوى والسلاح الذي يفرض نفسه خارج إطار الدولة، وإن سعى لشرعنة وجوده بقوانين انتزعها من الدولة، أو تقوية نفوذه بشخوص منه زرعها في بعض مفاصل الدولة، وهي نفسها اليد ونفسه السلاح الذي أخمد الأصوات التي انطلقت قبل سنوات في مناطق شمال وغرب العراق رافضة المشروع الإقليمي التوسعي الإيراني، فاستشرى القتل والخطف والتنكيل وإهانة الكرامة والتغييب القسري فيهم، ولم تكتفِ أذرع إيران بذلك، بل هجرتهم من ديارهم، ورفضت عودتهم لمنازلهم حتى هذه الساعة