لايحتاج العظماء للتعريف بهم فهم معرفون بما قدموه من عطاء ثر وابداع يتفجر بالعبقرية بلا نهايات غارقة في بحور النسيان ، وناصرة السعدون من عظماء امتنا العربية الذين يتغلغلون بهدوء ونعومة في طيات قلوبنا ونراهم يقتحمون عقولنا بدون استئذان، فحصانتنا ضد الغريب تتهاوى امام الاصالة، وتتلاشى الاقفال امام العلم وعفوية المشاعر الانسانية ، عرفتها مبكرا في عام 1963 في مقر الاتحاد الوطني لطلبة العراق في عام 1963 عندما كنا هناك شباب وشابات ناضلوا ضد الديكتاتورية القاسمية وجمعهم مقر الاتحاد وكان رئيسه الدكتور مقداد العاني اطال الله عمره، وكانت ناصرة السعدون وهناء العمري وسناء العمري وهناء عبدالقادر وامال عبدالقادر ،وغيرهن ، يسهمن بفعالية في بناء حركة طلابية تقدمية بحماس من لم يكن له ثروة سوى النقاء .
وعندما وقعت ردة تشرين في نفس العام كانت ناصرة من بين من واصلوا النضال رغم صعوبة الوضع واكشف لاول مرة ما لم تكن ناصرة تتحدث عنه لتواضعها ،وهو انها اعتقلت في عام 1965 عندما كانت تنقل رسائل حزبية بين بغداد وبيروت مستخدمة سيارتها الخاصة ، وكانت للمرحوم طاهر يحيى رئيس الوزراء وقتها صلة عائلية بعائلة ال السعدون فأتصل المرحوم عبدالعزيز السعدون والد ناصرة بطاهر يحيى واطلق سراحها وكان في ذلك الوقت من النادر جدا اعتقال امراة لاسباب سياسية ، فناصرة اصلا كانت مناضلة صلبة من اجل العراق والامة العربية وقبل ان تصبح روائية ومترجمة واقتصادية وادارية بارعة.
تعززت علاقتي بناصرة عندما تزوجها ابن عمي المرحوم مصطفى المختار، ثم تعددت عوامل الاندماج العائلي وتشابكت بزواجي من شقيقتها ام اوس، وهكذا فناصرة جزء من عائلتي. ولعل من ابرز سمات ناصرة التي يلمسها كل انسان عرفها هي انها لاتفرط بأحد ومهما بلغت الخلافات معه ، فحتى الان تحتفظ بعلاقات ود مع كل من عرفتهم رغم ان الزمن تغير وتفجرت صراعات سياسية وظهرت موجات ثقافية مزقتنا الا ناصرة فقد نجحت بالمحافظة على من عرفتهم في شبابها المبكر وبقيت على صلة ود وصداقة معهم ،وليس ذلك الا تعبير عن بعد نظرها وطيبة قلبها وسعة صدرها.وناصرة الشجاعة والناجحة في العلاقات الاجتماعية امتلكت صفات اخرى وهي الصفات التي تمازجت مع مناقبها الجليلة الاخرى، فهي كاتبة مبدعة في السياسة والاقتصاد والادب وكتبت اروع الروايات، واولها كانت رواية (لو دامت الافياء) المفعمة بالعواطف الانسانية النبيلة، وترجمت بدقة كتبا من الانكليزية والفرنسية،وهي صحفية مبدعة ترأست تحرير صحيفة تصدر باللغة الانكليزية هي (بغداد اوبزرفر) ، وهي ادارية ناجحة تولت منصب مدير عام دار الكتب، فالكتاب كان محور حياتها ومنبع ابداعها ، ولكنها ومع كل تلك المواهب المتعددة والغزيرة لم تترك النضال، فعندما فرض الحصار على العراق وكانت غيوم العدوان السود تتجمع فوق سماء العراق والمنطقة التحقت بسفينة السلام التي اتت وهي تضم دعاة السلام من كل العالم واخذوا يزورن دول العالم للتنبيه للعدوان الذي كان يحضر للعراق ،وكانوا يصرخون بصوت عال: لا للحرب ضد العراق ، وفي البحر نزل المارينز من طائرة فوق السفينة واعتدوا بالضرب على ركاب السفينة وكانت حصة ناصرة هي فقدان نصف سمعها الى الابد بعد ان ضربها جندي امريكي على اذنها.
وبعد العدوان الثلاثيني الغاشم برعت ناصرة في ترجمة مايدور حول العراق من بحوث ودراسات ومقالات وكانت تنشرها، معممة الوعي بما يجري. وبقيت تناضل بالفكر والقلم وتضع امام نواظر شعبنا ما لم يكن حاضرا من خطط وافكار وتوجهات،فالتي عرفتها مناضلة في مقر الاتحاد الوطني لطلبة العراق بقيت مناضلة تركب البحار من اجل العراق ،والتي نقلت رسائل حزبية بين بيروت وبغداد واصلت نقل رسائل الوعي والثقافة والفن لشعبنا وهو في محنته من الحصار الى الغزو والتهجير المنظم.وكما كانت قبل التهجير خلية نحل ونبع ابداع لاينضب فانها بعد التهجير تحت ضغط التهديدات سكنت سوريا ثم الاردن وواصلت انسانيتها مجسدة في تعميق الثقافة لانها عرفت مبكرا ان الغزو وتدمير العراق كان من اهم اهدافه اطفاء مركز نور عربي كان ناهضا بألاف الكتب التي كانت تطبع فيه كل عام لمختلف المبدعين العرب ولعشرات معارض الفن التي تبقي الانسان مصبا للنور وعاكسا له في ان واحد . في هذه الاجواء التي صنعت ليدخل العراق نفق الظلام والتخلف مرة اخرى تصدت ناصرة بطريقتها الخاصة لذلك التيار الظلامي فكتبت اروع الروايات وترجمت اهم الكتب التي تنير الدرب وتهزم جيوش الظلام الثقيلة التي فرضها غاز لئيم حرص اولا وقبل كل شيء على اطفاء عقول العراق، كانت ناصرة في طليعة من حملوا راية التنوير وسارت وهي تحمل شمعتها في درب معتم فلم تكل ولم تمل من قرع جرس ينداح صوته ليدق بوابات الاذان ويسمع من غطس في ممالك النسيان.
رحلت ناصرة جسدا ولكنها بقيت معنا روحا تشع نورا وابداعا من رواياتها وترجماتها وكتاباتها الابداعية الاخرى وقبل هذا وذاك واهم منهما بقيت سيرتها العطرة حية، بأرثها وتراثها بقيت ناصرة تتحدى النسيان متربعة عرش مشاعرنا، تصدّر لنا وهي راحلة حزم الارادة الانسانية التي لاتلين حتى في مواجهة المرض اللعين الذي قاومته كما قاومت الديكتاتورية والظلامية باقصر الطرق ! رحلت ناصرة لكنها لم ترحل الابعد ان تركت ارثا عظيما لنا متجذرا في روح عراق عمره ثمانية الاف عام.وكما نقرأ الان بتلذذ عن جلجامش رغم الاف السنين التي مرت سيقرأ احفادنا واحفادهم روايات ناصرة ،وتعويضنا نحن خصوصا دعاء وضرار هو هذا الفخر بالكنوز التي تركتها ناصرة. صديقتها شاعرة الامل ساجدة الموسوي نعتها بقصيدة تبكي الحجر :
وداعاً صديقة روحي ،وداعا،كما غيمةٍ رحلت عن سماها، كما زهرةٍ ذبلت، عندما انتُزِعت من ثراها،كما دمعةٍ من عيون المها،ثقُلت ثم سالت ،لتكشف عورات هذا الزمان، ليت أهلَ الزمانِ،تراها.
هل عرفتم الان لم اكتفيت في العنوان باسم ناصرة السعدون مجردا من اي وصف ؟