نحن شعوب ٌجينية،هم شعوب جَنِيّة

بعد احتلال العراق 2003 راجعتُ كل ما كنت اعتقد أنه مسلمات فكرية شخصية او اجتماعية. غايتي كانت الوصول الى الاسباب التي جعلت الكارثة تحل بنا! واعترف ان نتائج هذه المراجعة التي مازالت جارية للآن غيرت الكثير من قناعاتي السابقة،بخاصة بعد ان أخضعتُ معظمها للاختبار على وفق المنهج العلمي الاجتماعي. واحدة من أهم الاستنتاجات التي توصلت لها في سبب تفوق الغرب علينا هو اننا شعوبٌ إعجازية جينية،وهم شعوب إنجازية جَنيّة(من جَنى).
ولأن المجال غير متاح هنا لاستعراض كل ما توصلتُ له من أشكال الإعجاز الجيني عندنا وأسبابه الجيو-تاريخية، فإنني سأكتفي باستعراض شكلَين فقط من إشكال هذا الاعجاز الجيني الشائعة في حياتنا المهنية،بل والاجتماعية وأترك للقارىء استعراض اشكال اخرى أختبرها في حياته.
ففي الوقت الذي يتم في أولاً تدقيق المؤهلات المهنية والعلمية لأي مرشح للعمل في الغرب قبل تدقيق مؤهلاته الشخصية،فإننا(غالباً وليس دائماً) نهتم اولاً-او ربما نعطي ثقلاً أكبر- لمؤهلاته الشخصية: ديانته،قوميته،حالته الاجتماعية،عشيرته،محافظته..الخ!لاحظوا مثلاً ان مواقع التواصل مشغولة لدينا الان في معرفة ديانة اركان الادارة الاميركية الجديدة. وبدلاً من التركيز على الخبرة العملية والشهادات والجامعات المرموقة التي تخرج منها فلان،يتم تداول وإبراز ديانته فقط وإهمال كل مؤهلاته الاخرى التي جعلته مرشحاً مناسباً.وحين نريد تقييم موظف عمومي او وزير او حتى لاعب كرة قدم فاننا نهتم كثيراً بمعرفة من أي(العمام) هو،وماهي قوميته،وطائفته وغيرها من الصفات الشخصية. فالقاعدة عندنا إن العرق دساس، وليس العَرَق أساس!! وقد وصلت السخافة ببعض العقول ان تبرر بعض قرارات أوباما مثلاً خلال ادارته بأصله المسلم(الشيعي)!!وتناسوا في ذات الوقت ان النظام هناك اتاح لسياسيٍ من أصول غير امريكية وغير مسيحية وغير انگلو-سكسونية،وليس ابن عوائل(لان من رباه ليسا والديه) ان يصبح رئيساً
في حين ان النظام عندنا هجّر عشرات الالوف و/أو حرمهم من ابسط حقوقهم ومارس ابشع التمييز العرقي والديني بحقهم،لأنهم تارةً ليسوا عرباً أقحاح،وأخرى ليسوا عراقيين أصليين،وثالثة لانهم ليسوا من الطائفة الناجية..الخ وبغض النظر عما فعلوه أو (جَنوه) فعلاً!! فجيناتهم هي المهمة. أما في الغرب، ولكونهم شعوب إنجاز فلا يؤمنون بغيب الاعجاز،ولأنهم يهتمون ب(جَناك) فلا ينظرون لجيناتك.
أما المثل الآخر لهذا الفرق في طريقة التفكير والتقويم،هو الدراسة التي أنجزتها مع فريق من علماء النفس الاجتماعي في جامعة مريلاند (ودامت اكثر من ثلاث سنوات)عن الفرق بين أنماط التفاوض في أمريكا وفي العالم العربي. فبعد كثير من التجارب العملية في اكثر من دولة عربية،توصلنا(من بين كثير من الاستنتاجات الاخرى) الى أن المفاوضات في أمريكا (غالباً)تبدأ بعد دقائق من انطلاقها بمناقشة الموضوع الاساس(سواء كان سياسي او اقتصادي او غير ذلك) مباشرة. وبعد انتهاء المفاوضات او النقاش يبدأ المتفاوضون بالتعرف على بعضهم البعض بشكل اكبر. أما عندنا فإن المتفاوضين يمضون أول ٢٠-٣٠ دقيقة في محاولة استكشاف بعضهم البعض وبخاصةما يتعلق بالجوانب الشخصية والحياتية. وبعد ان يبنون تصورات وعلاقات شخصية ينتقلون لموضوع التفاوض الحقيقي!! بذلك يفقدون وقتاً كبيراً كان ينبغي استثماره لاشباع موضوع التفاوض وإغناءه. بأختصار فأن الغرب يبدأ بالعقل ليكسب القلب،أما نحن فنبدأ بالقلب لنصل للعقل.
ان مقالي هذا ليس جَلداً للذات ولا انتقاصاً من عاداتنا وثقافتنا. إنه محاولة لكشف الحقائق وتجنب الشخصانية في الاحكام والتي طالما اسفرت عن نتائج كارثية جعلتنا متخلفين،وجعلتهم متقدمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى