يتم تداول فكرة متسرعة من أن تنظيم الضباط الأحرار الذي أطاح بالحكم الملكي في العراق يوم 14 تموز 1958، كان اقتفاءً لتجربة الضباط الأحرار في مصر عندما أطاحوا بنظام الحكم الملكي يوم 23 تموز/يوليو 1952.
فما مدى صحة هذه الفرضية؟
نعم إن الوطن العربي كان يعيش ظروف قهر واستغلال متطابقة أو متقاربة، ونعم أيضا إن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، كاد أن يكرس زعامة الرئيس المصري جمال عبد الناصر قائدا وطنيا يحمل نزعة قومية ثورية تدعو إلى مواجهة الاستعمار وتعطي تجربة ناجحة في تحديه على الرغم من فارق القوة المادية بين الطرفين، لكن تجربة 14 تموز في العراق تختلف اختلافا جذريا عن ثورة 23 تموز/يوليو في مصر، ولو أن الضباط الأحرار في العراق الذين نفذوا حركة 14 تموز قد اقتبسوا شيئا من تجربة 23 يوليو المصرية، لكان حريا بهم اقتفاء أهم خطوة قام بها النظام الجمهوري في مصر عندما تم ترحيل الملك فاروق باحترام يليق بمكانته كملك لمصر وتوديعه مع إطلاق المدفعية توديعا للباخرة التي أقلّته، فهل حصل شيء من هذا في العراق؟
لقد كانت المدة الفاصلة بين الحدثين ست سنوات كاملة ولكنّ أحدا لم يفكر جديا من الضباط الأحرار بمصير الملك فيصل الثاني، الرجل الوديع الذي لم يسء إلى أحد من جهة ولم يمكث في الحكم إلا فترة وجيزة، ثم إنه كان يملك ولا يحكم، ولنفترض أن الغضب منصب على الأمير عبد الإله وعلى نوري السعيد، فهل كان من العدل أن يؤخذ الملك بجريرة غيره؟ أو تؤخذ النساء بجرائم الرجال؟ أم أن نزعة العنف والانتقام في الشخصية العراقية هي التي تحكمت في سلوك المنفذين؟ وهنا لا بد أن يطرح سؤال منطقي، إذا كان هذا السلوك مدانا من جانب قيادة الحركة، فلماذا لم تتم محاسبة قتلة الملك والنساء؟ بل على العكس من ذلك منحوا قِدَماً عسكريا؟
ومن باب الإنصاف لتجربة الضباط الأحرار المصريين لا سيما الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، أن نقول إنهم بريئون من نقل تجربة العنف إلى العراق، فبعد ثورة يوليو في مصر استعادت الدولة المصرية هيبتها وباشرت مؤسساتها واجباتها في مختلف الاختصاصات، أما في العراق فبعد أيام معدودات من التغيير في 14 تموز، طفت على السطح تيارات متصارعة بين أوساط تنظيم الضباط الأحرار، وحصل الانقسام العمودي بين توجهين، قومي يضم حزب البعث العربي الاشتراكي والتيارات القومية الأخرى من جهة والتيارات الشعوبية والتي تضم الشيوعيين ومن انحاز إليهم، ولكن ما حصل في العراق أن السلطة الحاكمة التي تدعم عبد الكريم قاسم وهو يوفر لها الغطاء الرسمي، مما جر معظم المدن العراقية إلى حالات احتراب دموي وصلت ذروتها عندما أصر عبد الكريم قاسم على إرسال (قطار السلام) إلى مدينة الموصل رغم كل النصائح التي وصلت لقاسم، مما أدى إلى إعلان العقيد عبد الوهاب الشواف الثورة على سلطة الزعيم، وما أعقب ذلك من تداعيات دراماتيكية سالت فيها دماء كثيرة وشكلت فيها محاكم غوغائية ساقت الأبرياء إلى ساحات الإعدام ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل اقتيد العشرات من بيوتهم الى محاكم صورية وتم سحلهم في شوارع المدينة وتعليق أجسادهم على أعمدة الكهرباء.
ولم يتوقف الأمر على فوضى الرعاع المنفلتين عن أية سلطة رسمية، بل انتقل إرهاب الدولة إلى محاكمات لا تتوفر فيها أبسط شروط العدالة، فقد تم اتهام عشرات الضباط الأحرار بالضلوع في (مؤامرة الشواف) عام 1959، وتم إعدام قادة كبار من أبرزهم العميد الركن ناظم الطبقجلي قائد الفرقة الثانية، والعقيد الركن رفعت الحاج سري، المخطط الأول لفكرة تنظيم الضباط الأحرار، وتواصل العنف في العراق ليعكس طبيعة الشخصية العراقية التي يضيق صدرها بأي تفكير، مجرد تفكير معارض.
فهل كانت مصر هي الدولة التي ابتدعت فكرة الانقلاب العسكري في الحياة السياسية العربية؟ أو أنها هي التي ألهمت الجيوش العربية نزعة الانقلابات العسكرية؟
من المعروف أن العراق شهد أول محاولة انقلابية في 29 تشرين الأول عام 1936 قادها الفريق بكر صدقي الذي أطلق على نفسه وصف قائد القوة الوطنية، الإصلاحية وكان مدعوما بقائد الفرقة الأولى عبد اللطيف نوري وقائد القوة الجوية العقيد محمد علي جواد الذي حلق بطائرته فوق بغداد وألقى البيان الذي أعده الانقلابيون، صحيح أن خطة انقلاب بكر صدقي لم تتجه لإلغاء نظام الحكم الوطني، لكن من يقرأ “البيان الأول” للانقلاب يجد أنه قد أسس لكل ما أعقبه من انقلابات عسكرية لاحقة، ثم ما أدرانا بما كان يدور في خلد بكر صدقي من خطط وبرامج لاحقة بعد أن تستتب له الأمور سياسيا وعسكريا.
فلماذا لا نفترض أن مشروع الانقلابات العسكرية قد وُلد في العراق لأول مرة كما نشأت كثير من الأفكار التي يفتخر بها العراقيون بأنهم ابتدعوها وقدموها للبشرية؟
وهل يعرف العراقيون أن ضابطا عراقياً هو جمال جميل الجبوري الذي وُلد في مدينة الموصل ونشأ فيها، وبعد تخرجه ضابطا من المدرسة العسكرية الملكية شارك في انقلاب بكر صدقي عندما كان برتبة نقيب، قاد حركة انقلابية في اليمن في 20 شباط عام 1948 ضد نظام حكم الإمام قُتل فيها الإمام يحيى بن حميد الدين، وبعد فشل ثورته وعودة الإمام أحمد يحيى تم إعدامه في صنعاء بسيف الإمام الجديد، وكان جمال جميل قد اُرسل ضمن بعثة عسكرية عراقية إلى اليمن بموجب معاهدة التعاون العسكري بين العراق واليمن والموقعة عام 1930، ووصلت البعثة في 25 شباط 1939، فهل أنبتت بذرة الانقلابات العسكرية في عقل هذا الضابط العراقي من يوم مشاركته بكر صدقي انقلابه؟ فنقلها إلى اليمن وهناك دفع حياته ثمناً لفكرة أراد إنجاحها في اليمن بعد أن عجز عن الوصول إلى هدفه في وطنه الأصلي العراق؟
هل وُلد جمال جميل في مصر؟ وهل درس في كليتها العسكرية أو اختلط بالضباط الأحرار في مصر الذين صدمتهم حرب فلسطين عام 1948 وموضوع الأسلحة الفاسدة التي عكست حسب تصورهم فساد نظام الحكم الذي أسقطوه يوم 23 تموز 1952؟
من باب انصاف النفس والغير كي لا نحمّل غيرنا وزر ما نقع فيه من أخطاء وما نرتكبه من خطايا، فإن مصر ومنذ دخول الإسلام إليها في خلافة الفاروق رضي الله عنه وحتى اليوم عاشت من الأزمات والمشاكل، بقدر ما عاشه العراق في عام واحد وربما أقل من ذلك، العراقيون شعب ساخط على نفسه وعلى الغير، شعب ثائر على الحق والباطل، وظن كثيرون أن دخول الإسلام إليه في خلافة الصديق رضي الله عنه سينقله من حالة الفورة التي تعتمل في دواخل أبنائه إلى سكينة ورضا لنفوس متذمرة، وإذا به يتحول إلى مفقس كبير لكثير من حركات الغلو في الإسلام فما كاد الإسلام أن يستقر كنظام حكم إلا وبرزت حركة الخوارج، ثم بدأت الحركات تتناسل بلا توقف، فقد شهدت الكوفة ولادة القرامطة وما أكثر العناوين لحركات تحمل بريقا وسحرا ظاهرا، ولكنها كانت تعكس نزعة الأزمة العقلية التي تعشعش في عقول كل من يسكن في هذه الأرض.
يقال إن الاسكندر المقدوني وعندما كان عائدا من الشرق بعد أن حقق انتصاراته العسكرية المبهرة، عسكر في منطقة الاسكندرية الواقعة في جنوبي بغداد، وخرج ليلة من خيمته يعس ويستطلع ما يحصل، وبمجرد خروجه من خيمته سمع جنديين من جنوده يتحدثان بينهما بهمس، ويوجهان نقدا مراً لقائدهما الذي ورط جيشه بحروب لا يبدو أنها ستنتهي يوما.
لم يسمع الاسكندر بمثل هذا الحديث الساخط من داخل مؤسسته العسكرية من قبل، فعاد إلى خيمته وسأل كبير مستشاريه، في أي أرض نحن؟ أجابه نحن في أرض بابل، تطيّر الاسكندر بمجرد أن سمع اسم بابل وأمر بالتحرك فورا منها وإلا فسدت عقول الجند واستشرت فيهم نزعة التمرد.
تقول الحكاية إن المرض اشتد على الاسكندر وتوفي في الاسكندرية العراقية ويقال إنه دفن هناك.
وجاء وصية معاوية بن أبي سفيان لابنه يزيد بالخلافة من بعده: (وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تُشهر عليك مائة ألف سيف).
1٬001