هنا المعقل…هنا البصرة..ثانيةً

لم يلق مقال كتبته نفس الاهتمام والانتشار والتعليقات التي لقاها مقالي:هنا المعقل…هنا البصرة. وعلى الرغم من اني لست مؤرخا،بل ان لدي تحفظات كبرى على تاريخنا ودراسته،الا اني وجدت نفسي مضطرا للعودة لذات الموضوع والحديث عن معشوقتي البصرة ومعقلها(ماركيلها) الرائع. أهم مايدفعني لذلك هو السؤال الذي تكرر عليَ وبالذات من فئة الشباب الذين لم اتوقع منهم هذا الاهتمام:مالذي جعل البصرة كما وصفتها في الستينات والسبعينات؟ هذا هو السؤال المشترك في كل التعليقات تقريبا. كانت أول أجابة قفزت لذهني،لا بناءً فقط على ما عاشرته بل ايضا على البحوث الاجتماعية والسياسية التي اجريتها: أنها المدنية!
البصرة أقدم حاضرة اسلامية في العراق وكانت أول العراقَين،وثانيهما الكوفة. وكأنما اراد عرب الجزيرة تلخيص كل حضارة العراق بالبصرة.أهل البصرة مدنيون بطبعهم،وللمدينة شروطها وثقافتها المميزة. هذه الثقافة لا تميز بين الناس حسب انسابهم ولا اديانهم ولا انتماءاتهم،بل تحتضنهم جميعا وتحنو عليهم جميعا،وتحبهم جميعا.هناك كثير من الجوانب للثقافة المدينية لكني ساكتفي بثلاث أمثلة صادفتها في طفولتي في (ماركيل) البصرة وتركت اثرا لا يمحى في سلوكي وتحكي لهذه الاجيال قصة مدينتي:
مزهر الشاوي والخاتون
كان والدي(رحمه الله)شاهدا على مزهر الشاوي-الباشا غير البصري الذي احبه وخلده البصريون- حينما دخل لمكتبه في الموانىء سكرتيره حاملا ظرف فيه رسالة من ام الباشا ارسلتها بيد احد العاملين في الميناء. للعلم،فأن مدير الموانىء آنذاك كانت له سلطات فعلية قد تفوق سلطات المتصرف وله من النفوذ ما يفوقه بالتأكيد،وكان حاكما مطلقا على المعقل الذي هو اشبه بدولة مستقلة. فالمعقل(ماركيل) الذي كان يسبق مناطق البصرة الاخرى -وأجزم بغداد ايضا- بسنين ضوئية من حيث العمران والتطور،كان فيها أشبه بدوائر مستقلة للشرطة،والصحة،والتعليم،والبلدية،والزراعة، وكانت كل بيوتها في كل احيائها العامرة الكثيرة والمترامية ملكاً للموانىء تديرها دون تدخل من اي سلطة. هذا فضلا عن ميناءها ومطارها ومتنزهاتها ونواديها وفرقها الرياضية بل وحتى مدينة ملاهيها. رسالة الخاتون(ام الباشا) الى ولدها كانت تتضمن طلباً منها بأن يخصص لحامل الرسالة-الذي هو احد عمال الموانىء بيتاً حكومياً. حين دخل العامل حامل رسالة الوالدة على مزهر الشاوي،بادره قائلاً: الخاتون تريد مني تخصيص بيت حكومي لك،فلماذا لا تتبرع باحد البيوت التي اورثها والدي لها بدلاً من ان تتبرع ببيت الحكومة!!
القانون لا سواه من يحكم الثقافة المدنية
كنا طلاب الصف الرابع ابتدائي في مدرسة الثغر نلعب بعد ان انتهينا من آخر امتحان لنا قبل عطلة نصف السنة،فدفعت زميلتي بشرى التي سقطت فكُسرت يدها.جاء الشرطي في اليوم التالي ليبلغ والدتي بحضوري لمركز شرطة الموانىء فاتصلت بوالدي الذي كان كابتن بحري وصديق لمدير الموانىء.فلما حاول التوسط لي،بخاصة واني طفل،وأن المشتكي-والد بشرى- عامل بسيط قد يتأثر بنفوذ والدي،رفض المفوض اي واسطة وأصر على اتمام الأجراء القانوني الذي انتهى بصلح ودي مع اهل بشرى بعد ان زرناهم في بيتهم. لم يخش ابو بشرى حين اشتكى فرق النفوذ بينه وبين أبي،كما انه لم يطلب فصل ولم (يكاوم) اهلي،ولم يحتكم سوى للقانون الذي كان متأكدا من أنصافه. لذا انتهت الحادثة بمودة اكبر بين العائلتين وبتعميق أكبر لثقافة البصرة.
من أي عشيرة نحن؟
سؤال سألته لوالدي وانا في السنة الاولى في الادارة والاقتصاد جامعة البصرة. ولأن الكلية فيها طلاب من كل المحافظات والمدن والقرى فقد سُألت عن عشيرتي فحلرت في الأجابة. قبلها كنت اعرّف نفسي باني من بيت(الداغر) ككل اقراني الذين اعرف انهم من بيت النقيب،اوأغا جعفر،أوالذكير،أوالزهير،أوالوائلي،أوالصفار،أوالمنديل،أوالفايز،او بريچ او السياب،وسواهم الكثير ممن لا يتسع المجال لذكرهم من بيوتات البصرة والذين لا نعرف كبصريين من هي عشائرهم. لا بل اننا كأصدقاء كنا غالبا ما نكتفي بذكر اسم الاب فقط للتعريف باهل الشخص.ففي المدن يتم تعريف الناس ببيوتاتهم لا بعشائرهم. هذا لا ينتقص من مكانة العشيرة وأهميتها في المجتمع بل العكس تماما،لكنه يؤكد الثقافة المدينية وقوة رسوخها مقابل قوة الثقافة العشائرية والحاجة لها خارج المدن. نعم كانت العشائر موجودة ومحترمة ولكننا كنا مجتمعا مدينيا بامتياز.
هذه بصرتي كما عرفتها،وهذا معقلي الذي سابقى الوذ به في ذاكرتي وأتلوه على ابنائي وأحفادي كي يعرفوا ان للمدن روحا يصعب على من يريد انتزاعها ان يعيش فيها. فعلى من يسكن البصرة أن يتبصر مثلما على من يسكن بغداد ان يتبغدد

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى