وردتني أمس رسالة من شخص لا اعرفه سابقا ،اسمه د.شيرزاد،اقتبس منها بعضها:
(عام ١٩٥٢ انتقل والدي الى البصرة وسكنا في المعقل (الحي الصيني) وكانت عائلة الكابتن محمد محمود الداغر تسكن قرب بيتنا. وكان للوالدين الكريمين اربعة اطفال …موفق كان صديقي (الروح بالروح) وكنا في نفس الصف (مدرسة الرشيد الابتدائية) وضمن (الاشطر)، وكان مؤيد اكبر منا سنا٫ فيما كان داغر وسناء طفلين صغيرين.
بعد سنوات عدنا لدهوك لكن الذكريات لم تنقطع….شاهدتك عبر الاعلام وتوقعت انك احد افراد العائلة…..للتذكير فقد كان بيت كمليل دانيال يفصل بين بيتنا وبيتكم)!انتهى الاقتباس.
ورغم اني ولدت بعد هذا التاريخ الذي اشار له كاتب الرسالة ،بسنين ولم أعش ما يقوله د شيرزاد لكن حديث والدتي(رحمها الله)عن تلك الفترة جعلني متأكد من صحة ذاكرة هذا الرجل الفولاذية والتي تعجبت ابنتي من دقتها بعد سبعين سنة على احداثها!لكني قلت لها الذكريات الجميلة لا تمحى وتبقى كالنقش في الحجر.والرجل يتحدث عن حقبة تاريخية عايشتها لاحقاً في المعقل وانا طفل في الستينات.لاحظوا الاسماء التي ذكرها كاتب الرسالة،فهي لعوائل كردية ومسيحية وسنية وشيعية سكنت الحي الصيني! انها المعقل التي حين زرتُ لندن اول مرة قلتُ،هذه المعقل أراها هنا،وحين زرتُ نيويورك وواشنطن وجدتُ فيهما حياً صينياً مثلما الجاينا كامب(الجينكم) الذي ذكرني به د شيرزاد.انها البصرة التي كان يصطحبني فيها ابي لزيارة(عمي)زلخا صديقه التاجر اليهودي في سوق الهنود الذي كان يستورد احدث المعدات الكهربائية (العجيبة)آنذاك،ويقدم لي اطيب(دوندرمة)من حجي كاظم!أنها البصرة التي كانت كازينوهات شط العرب تمتلىء فيها بروادها من العوائل البصرية الكريمة نساءً ورجالاً وهم يرتدون ارقى الملابس واحدث الموضات. انها شط العرب الذي كان يعج بالسيارات البرمائية الكويتية يومي الخميس والجمعة،حين كان ظهور سيارة اعتيادية غير شائع في بعض المدن فما بالك بسيارات برمائية؟! انها المعقل الذي كنا نذهب فيه لجامع الحكيم سنة وشيعة كي نحيي ليلة(الطبگ)حتى الفجر
ونشاهد مواكب العزاء من شقة عالية في عمارة النقيب(السني)قرب سوق حنا الشيخ(المسيحي)في مناسبةٍ(شيعية)هي من بين احلى ما نعيشه. انها المعقل التي تدربتُ فيها في قسم الحاسبة الالكترونية للموانىء في منتصف السبعينات حينما لم تكن هناك دولة في المنطقة بعد تعرف معنى الحاسوب الالكتروني..انها المقهى الياباني(شفقة العامل) التي لم اشاهد مثلها في كل دول المنطقة..هي معمل(النامليت) قرب رصيف نمرة ٤،الذي كان يوزع على موظفي الموانىء مجاناً الذ المشروبات الغازية في بيوتهم! انها شارع اجنادين الذي لا تضاهيه شوارع احياء باريس وحي المهندسين،والخمسين حوش،والحي المركزي والابلة التي كانت في نظافتها تضاهي كل المدن العربية والاجنبية التي اعتدتُ زيارتها خلال العقدين الماضيين.هي حدائق الاندلس وكازينو شط العرب ونادي البورت الذي تقام فيه ارقى بطولات التنس والسباحة وحفلات (الكاندل لايتز بارتي)! انها نادي الميناء بكل فطاحله الرياضية والكروية التي اذاقت فرق العاصمة مر الهزائم الكروية. انها مدينة الرباع المسيحي الحائز على الميدالية الاولمبية الوحيدة للعراق عبد الواحد عزيز الذي كان يسكن ايضا في الحي الصيني.انها يخت الثورة الذي يقصده رؤساء الدول ليبيتوا فيه حين يزوروا البصرة،وتقصده نوادي بغداد بعوائلها ليتنزهوا في عباب شط العرب ويتوقفوا امام عبادان لتأتيهم الزوارق الايرانية فيستقلوها ليقوموا بجولة في عبادان ليتسوقوا منها الكرزات والساهون والسماورات الرائعة.
انها سوق الهنود حيث ينزل الهنود من باخرة (الفاست ميل) التي تأتي من الهند محملين فيها بانواع البهارات والعطور.هي البصرة،ب(فيفرة) تومان وكمنجة مجيد ونغمة طارق وشجن فؤاد وابداع ست شوقية واجواء كسلات الاثل وانغام الخشابة وصفگتنه التي نتنافس من يكون الكاسور فيها!انها الطبگة في يوم تأسيس الجامعة حين تمتلىء بنا شباباً وشابات نتنافس فيها من يلبس الاجمل ومن هي المجموعة الاكبر من الشابات والشباب الذين يجتمعون ليغنّوا ويضحكوا ويلعبوا ببراءة البصريين الطيبين الذين يجري في دمهم الفرح وحب الحياة. انها البصرة وقلبها المعقل الذي يضخ في شرايينها الاقتصاد والمال عبر ميناء المعقل وارصفته الاربعة .انها مدينة الجمال والحياة والتعايش والتسامح والوصال الذي جعل كردياً يسكن اميركا حالياً ،سكن فيها بضع سنين في بداية الخمسينات يحن اليها والى اهلها. انها البصرة الني يحاول البعض الباسها ثوب الطائفية والتشدد وحب الموت بدل الحياة،ستبقى عصيةً عليهم وستزدهر لا بشيوخها الذين يذكرونها بل بشبابها التشريني الثائر الذي اريده ان يسمع حكاياتنا عنها كي يبني بصرةً اجمل وابهى واكمل.